وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات ، جملة من الأحاديث الشريفة ، فقال ما ملخصه : قوله : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أى : بالجزاء في الدار الآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أى : لطريق الشر ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ودالة على أن الله يجازى من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة.
منها : ما أخرجه البخاري عن على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ، ومقعده من النار» فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ...) إلى قوله : (لِلْعُسْرى) (١).
و «ما» في قوله ـ سبحانه ـ : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) يجوز أن تكون نافية. والتردي : السقوط من أعلى إلى أسفل. يقال : تردى فلان من فوق الجبل ، إذا سقط من أعلاه إلى أسفله. والمراد به هنا : النزول إلى القبر بعد الموت ، أو السقوط في النار بسبب الكفر والفسوق والعصيان ، من الردى بمعنى الهلاك.
أى : ولا يغنى شيئا عن هذا الشقي الذي بخل واستغنى وكذب بالحسنى ، ماله وجاهه وكل ما كان يملكه في الدنيا ، إذا سقط يوم القيامة في النار.
ويجوز أن تكون «ما» استفهامية : ويكون الاستفهام المقصود به الإنكار والتوبيخ ، أى : وماذا يغنى عن هذا الشقي ماله بعد هلاكه ، وبعد ترديه في جهنم يوم القيامة؟ إنه لن يغنى عنه شيئا ماله الذي يخل به في الدنيا ، بل سيهوى في جهنم دون أن يشفع له شافع ، أو ينصره ناصر ، وصدق الله إذ يقول : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً). وإذ يقول : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ...).
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ، أنه قد أعذر إلى عباده ، حيث وضح لهم طريق الخير وطريق الشر ، وكشف لهم عن حسن عاقبة من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، وسوء عاقبة من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى). أى : إن علينا ـ بمقتضى حكمتنا ورحمتنا بعبادنا ـ أن نبين لهم طريق الحق ، وطريق الباطل ، بواسطة رسلنا ، فمن شاء بعد ذلك فليؤمن فينال الثواب ، ومن شاء بعد ذلك
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٤٠.