والمراد ما قطع الله ـ تعالى ـ عنك وحيه ـ أيها الرسول الكريم ـ ، وما كرهك ، وهذا رد بليغ على المشركين الذين زعم بعضهم أن الله ـ تعالى ـ قد ترك نبيه ، وزعم آخرون أنه قد أبغضه ، وحذف مفعول «قلا» للدلالة عليه في قوله ـ تعالى ـ (ما وَدَّعَكَ) ، وهو إيجاز لفظي لظهور : المحذوف ، ومثله قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَآوى) ، (فَهَدى) ، (فَأَغْنى) ..
ثم بشره ـ سبحانه ـ ببشارتين عظيمتين ، قد بلغتا الدرجة العليا في السمو والرفعة ، فقال : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).
أى : وللدار الآخرة وما أعده الله لك فيها من نعيم لا يحيط به وصف ، خير لك من دار الدنيا التي أعطيناك فيها ما أعطيناك فيها من نبوة ، وكرامة ومنازل عالية ، وخلق كريم.
وفضلا عن كل ذلك فأنت ـ أيها الرسول الكريم ـ سوف يعطيك ربك من خيرى الدنيا والآخرة ، كل ما يسعدك ويرضيك ، من نصر عظيم ، وفتح مبين ، وتمكين في الأرض ، وإعلاء لكلمة الحق على يدك ، وعلى أيدى أصحابك الصادقين ، ومنازل عظمى في الآخرة لا يعلم مقدارها إلا الله ـ تعالى ـ ، كالمقام المحمود ، والشفاعة ، والوسيلة ... وبذلك ترضى رضاء تاما بما أعطاك ـ سبحانه ـ من نعم ومنن.
فالمراد بالآخرة : الدار الآخرة التي تقابل الدار الأولى ، وهي الحياة الدنيا ، وبعضهم جعل المراد بالآخرة ، نهاية أمره صلىاللهعليهوسلم في هذه الدنيا ، والمراد بالأولى بداية أمره صلىاللهعليهوسلم في هذه الدنيا ، فيكون المعنى : ولنهاية أمرك ـ أيها الرسول الكريم ـ خير من بدايته ، فإن كل يوم يمضى من عمرك ، سيزيدك الله ـ تعالى ـ فيه ، عزا على عز ، ونصرا على نصر ، وتأييدا على تأييد .. حتى ترى الناس وقد دخلوا في دين الله أفواجا .. وقد صدق الله ـ تعالى ـ لنبيه وعده حيث فتح له مكة ، ونشر دعوته في مشارق الأرض ومغاربها.
قال الآلوسى : وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا ، والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا ، هو الظاهر .. وقال بعضهم : يحتمل : أن يراد بهما نهاية أمره صلىاللهعليهوسلم وبدايته ، فاللام فيهما للعهد ، أو عوض عن المضاف إليه. أى : لنهاية أمرك خير من بدايته ، فأنت لا تزال تتزايد قوة ، وتتصاعد رفعة .. (١).
وجيء بحرف الاستقبال في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، لإفادة أن هذا العطاء مستمر غير مقطوع ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَسَوْفَ يَرْضى).
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٥٨.