ينقلب أرذل من سائر أنواع الحيوان ، ولطالما قلت : «إذا فسد الإنسان فلا تسل عما يصدر عنه من هذيان أو عدوان» (١).
والذي يتأمل الرأى الثاني والثالث يرى أن بينهما تلازما ، لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدى إلى الدخول في النار وبئس القرار ، وهذان الرأيان أولى بالقبول ، لأن الاستثناء في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يؤيد ذلك ، إذ المعنى عليها : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة ، وإيثاره الغي على الرشد ، والكفر على الإيمان ...
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وساروا على مقتضى فطرتهم ، فأخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ... فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم ، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم ، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ، «ثم» هنا للتراخي الزمانى أو الرتبى ، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل ، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر. فأسفل مفعول ثان ، والمعنى : ثم جعلناه من أهل النار ، الذين هم أقبح ، وأسفل من كل سافل ... ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف ، وأسفل منصوب بنزع الخافض.
أى : رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم ...
وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) استثناء متصل من ضمير «رددناه» العائد على الإنسان ، فإنه في معنى الجمع ، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم. وحسنا على حسنهم ...» (٢).
و «ما» في قوله ـ سبحانه ـ : (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) اسم استفهام مبتدأ ، وخبره جملة «يكذبك». والخطاب للإنسان الذين خلقه الله ـ تعالى ـ في أحسن تقويم ، ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. والاستفهام للإنكار والتعجيب من هذا الإنسان ...
والمعنى : فأى شيء يحملك ـ أيها الإنسان ـ على التكذيب بالدين وبالبعث وبالجزاء ، بعد أن خلقناك في أحسن تقويم ، وبعد أن أقمنا لك الأدلة على أن دين الإسلام هو الدين الحق ، وعلى أن رسولنا صادق فيما يبلغك عن ربه ـ عزوجل ـ؟
فالمقصود بقوله ـ تعالى ـ : (يُكَذِّبُكَ) : يجعلك مكذبا ، أى : لا عذر لك في التكذيب
__________________
(١) راجع تفسير جزء عم ص ٩١ للشيخ محمد عبده ـ رحمهالله ـ.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٣٠ ص ١٧٦.