والمراد بها هنا : رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) ، ولأنه صلىاللهعليهوسلم كان في ذاته برهانا على صحة ما ادعاه من النبوة ، لتحليه بكمال العقل وبمكارم الأخلاق ، ولإتيانه بالمعجزات التي تؤيد أنه صادق فيما يبلغه عن ربه.
والمعنى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، ولم يكن ـ أيضا ـ الذين كذبوا الحق من المشركين ، ولم يكن الجميع بمفارقين وبمنفصلين عن كفرهم وشركهم ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) التي هي الرسول صلىاللهعليهوسلم فلما أتتهم هذه البينة ، منهم من آمن ومنهم من استمر على كفره وشركه وضلاله.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : «كان الكفار من الفريقين ، أهل الكتاب ، وعبدة الأصنام ، يقولون قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي المكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، فحكى الله ـ تعالى ـ ما كانوا يقولونه ، ثم قال : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، يعنى أنهم كانوا يعدون باجتماع الكلمة ، والاتفاق على الحق ، إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ، ولا أقرهم على الكفر ، إلا مجيء الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست بمنفك عما أنا فيه حتى يرزقني الله ـ تعالى ـ الغنى ، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقا ، فيقول له واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار ، يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما.
وانفكاك الشيء من الشيء ، أن يزايله بعد التحامه به. كالعظم إذا انفك من مفصله.
والمعنى : أنهم متشبثون بدينهم لا يتركونه إلا عند مجيء البينة. (١).
ومنهم من يرى : أن (مُنْفَكِّينَ) بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أى : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك ، حتى تأتيهم البينة ، على معنى قوله ـ تعالى ـ : (أيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً).
أو المعنى : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله ـ تعالى ـ وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله ـ تعالى ـ إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : ما كانوا ليتركوا سدى ... (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٨٢.
(٢) راجع تفسير «أضواء البيان» ج ٨ ص ٣٩٧ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.