وأصلها تاء المرة ، ولكنها لما أريد بها المصدر ، قطع النظر عن المرة ، وصار لفظ «الحاقة» بمعنى الحق الثابت الوقوع.
ولفظ «الحاقة» مبتدأ ، و «ما» مبتدأ ثان ، ولفظ الحاقة الثاني ، خبر المبتدأ الثاني ، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره ، خبر المبتدأ الأول.
قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ) يريد القيامة ، سميت بذلك : لأن الأمور تحق فيها.
وقيل سميت بذلك ، لأنها تكون من غير شك. أو لأنها أحقت لأقوام الجنة ، ولأقوام النار ، أو لأن فيها يصير كل إنسان حقيقا بجزاء عمله ، أو لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل. أى : تبطل حجة كل مخاصم في دين الله بالباطل ـ يقال : حاققته فحققته فأنا أحقّه ، إذا غالبته فغلبته .. والتّحاق التخاصم ، والاحتقاق : الاختصام .. (١).
و «ما» في قوله (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) اسم استفهام المقصود به هنا التهويل والتعظيم ، وهي مبتدأ. وخبرها جملة (أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) وما الثانية وخبرها في محل نصب سادة مسد المفعول الثاني لقوله (أَدْراكَ) لأن أدرى يتعدى لمفعولين ، الأول بنفسه والثاني بالباء ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) (٢).
وهذا الأسلوب الذي جاءت به هذه الآيات الكريمة ، فيه ما فيه من التهويل من شأن الساعة ، ومن التعظيم لأمرها ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول : يوم القيامة الذي يخوض في شأنه الكافرون ، والذي تحق فيه الأمور وتثبت. أتدري أى شيء عظيم هو؟ وكيف تدرى أيها المخاطب؟ ونحن لم نحط أحدا بكنه هذا اليوم ، ولا بزمان وقوعه؟
وإنك ـ أيها العاقل ـ مهما تصورت هذا اليوم ، فإن أهواله فوق ما تتصور ، وكيفما قدرت لشدائده : فإن هذه الشدائد فوق ما قدرت.
ومن مظاهر هذا التهويل لشأن يوم القيامة افتتاح السورة بلفظ «الحاقة» الذي قصد به ترويع المشركين ، لأن هذا اللفظ يدل على أن يوم القيامة حق.
كما أن تكرار لفظ «ما» ثلاث مرات ، مستعمل ـ أيضا ـ في التهويل والتعظيم ، كما أن إعادة المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه بلفظه ، بأن قال (مَا الْحَاقَّةُ) ولم يقل ما هي ، يدل أيضا على التهويل. لأن الإظهار في مقام الإضمار يقصد به ذلك ، ونظيره
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٨ ص ٢٥٧.
(٢) سورة يونس الآية ١٦.