البينات الموجبة له من الدلائل والبراهين ، مثل قوله تعالى قبل ذلك : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [آل عمران : ٤٦] ، وما أشبه ذلك مما يدل على أنه وجد بعد أن كان معدوما ، واستقر فى مضيق الرحم ، ثم ترعرع وصار شابا يأكل ، ويشرب ، ويحدث ، وينام ، ويستيقظ.
وإنما فسر العلم بالبينات والبراهين ؛ لأن العلم الذى حصل فى قلبه ، عليه الصلاة والسلام ، لا يوجب إفحامهم ، وانقطاع جدالهم وشبهاتهم ، ولا إقدامهم على المباهلة والملاعنة ، بل الذى يوجب ذلك هو إيراد الدلائل عليهم ، بحيث يلجئهم إلى الاعتراف بالحق وقبوله ، أو إلى إصرارهم على إنكاره وتكذيبه ، عنادا واستكبارا ، مع أن نفس العلم لا يتصف بالمجىء والانتقال من موضعه ، بخلاف الدليل ، فإنه يوصف بالورود والقيام.
والمراد بالمباهلة الملاعنة ، بأن يقال : بهلة الله ، أى لعنته على الكاذبين منا ومنكم بأمر عيسى ، عليهالسلام. والبهلة ، بضم الباء وفتحها ، وأصله الترك ، من قولهم : بهلت الناقلة إذا تركت بلا صرار (١) ، ومعنى قوله : (تَعالَوْا) أى بالرأى والعزم ، لا بالأجساد والأشخاص ؛ لأنهم حاضرون عنده ، عليه الصلاة والسلام ، بأجسادهم حيث إنهم يجادلونه صلىاللهعليهوسلم فى شأن عيسى ، عليهالسلام.
قوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ ...) الآية ، أى ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله ، وإنما قدمهم على النفس ؛ لأن الرجل يخاطر بنفسه لأجلهم ، ويحارب دونهم ، فلما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية على وفد نجران ، ودعاهم إلى المباهلة ، قالوا : حتى نرجع وننظر فى أمرنا ، ثم نأتيك غدا.
فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا للعاقب ، وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبى مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لنهلكن ، فإن أبيتم إلا الإقامة على دينكم وعلى ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم ، فوادعوا هذا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد غدا محتضنا للحسين ، آخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشى خلفه ، وعلى بن أبى الخطاب خلفها ،
__________________
(١) فى المختار : صر الناقة : شد عليها الصرار ، بالكسر ، وهو خيط يشد لئلا يرضعها ولدها.