ثم وبخهم الله تعالى على سوء صنيعهم ، وإضلالهم أمر العامة ، فقال : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٤٢] ، أمروا أولا بتكميل نفوسهم بالإيمان ، واتباع الآيات ، وترك الضلال ، ثم نهوا عن إضلال غيرهم ، وإضلال الغير له طريقان ، وذلك لأنه إن كان قد سمع دلائل الحق ، فإضلاله إنما يكون بتشويش تلك الدلائل عليه بالشبهات الباطلة ، وإذا كان لم يسمعها ، فإضلاله إنما يكون بكتمها وإخفائها عنه حتى لا يصل إليها ويستدل بها على الحق.
فقوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، نهى عن الطريق الأول بالإضلال ، وقوله : (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) ، نهى عن الطريق الثانى ، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل ، واللبس الخلط ، يقال : لبس الحق بالباطل ، من باب ضرب ، أى خلطه به ، وقد يلزمه جعل الشيء شبيها بغيره ، وقد لا يلزمه ، كما فى خلط التفاح بالزبيب ، فإن خلطه به لا يؤدى إلى الاشتباه والالتباس ، كما فى خلط الباطل بالحق ، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر حتى لا يميز بينهما ، فيستعمل اللبس الذى فى الآية فى لازم معناه الأصلى ، وهو الاشتباه وعدم الامتياز ، حتى لا يقال : إنهم لم يخلطوا الحق بالباطل ، بل جعلوا الباطل موضع الحق ، فإن جعل الباطل موضع الحق يؤدى إلى اشتباه كل منهما بالآخر ، وهو المراد المنهى عنه فى الآية الكريمة ، فالباء على هذا تكون للاستعانة ، كالتى فى : كتبت بالقلم.
يعنى أنهم استعانوا على جعل الحق شبيها بالباطل بكتابة الباطل موضع الحق. ولبعض العلماء ملحظ آخر فى توجيه معنى الاستعانة ، أنهم لم يكتبوا الباطل موضع الحق ، بل أبقوا الحق فى التوراة ، ولكنهم صرفوه بالتأويل الفاسد إلى غير معناه المقصود ، مثل قولهم : محمد رسول ، ولكن إلى غيرنا ، فإقرارهم ببعثته حق ، وجحدهم أنه ما بعث إليهم باطل ، ولعل هذا التوجيه أسلم.
فإذا ما قالوا : إنا لم نكتب باطلا موضع الحق ، قلنا لهم : ومع ذلك فإنكم صرفتم اللفظ عن غير المراد من غير دليل ، ولا برهان ، ولذلك استبعد بعض العلماء أيضا كون الباء للتعدية ، إذ المعنى عليه : لا تخلطوا الحق الذى فى التوراة بالباطل الذى تكتبونه فيها ، فلهم أن يقولوا : لم نكتب باطلا بجانب حق ، يعنى فلم يلزمهم ، ولم يقطع عليهم كل أعذارهم ، إلا أن يكون المعنى : ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التى أوردتموها على السامعين ، وذلك لأن النصوص الواردة فى التوراة فى أمر محمد صلىاللهعليهوسلم كانت