لأنّ أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرّف ، واللام في (لَيُوسُفُ) هي الموطئة للقسم ، وإنما قالوا هذه لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده ، وجملة (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) في محل نصب على الحال ، والعصبة : الجماعة ، قيل : وهي ما بين الواحد إلى العشرة ، وقيل : إلى الخمسة عشر ، وقيل : من العشرة إلى الأربعين ، ولا واحد لها من لفظها بل هي كالنّفر والرّهط ، وقد كانوا عشرة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : لفي ذهاب عن وجه التدبير وبالترجيح لهما علينا وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ، ولا يصحّ أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) أي : قالوا : افعلوا به أحد الأمرين ؛ إما القتل ، أو الطّرح في أرض ، أو المشير بالقتل بعضهم والمشير بالطرح البعض الآخر ؛ أو كان المتكلّم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون ، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم ، وانتصاب أرضا على الظرفية ، والتنكير للإبهام ؛ أي أرضا مجهولة ، وجواب الأمر (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حبا كاملا. (وَتَكُونُوا) معطوف على يخل ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن. (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد يوسف ، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه ؛ وقيل : من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف (قَوْماً صالِحِينَ) في أمور دينكم وطاعة أبيكم ، أو صالحين في أمور دنياكم لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك ، وهو الحسد ليوسف وتكدّر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه ؛ أو المراد بالصالحين : التائبون من الذنب (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي من الإخوة ، قيل : هو يهوذا ، وقيل : روبيل ، وقيل : شمعون (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) قيل : ووجه الإظهار في لا تقتلوا يوسف استجلاب شفقتهم عليه ، قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام «في غيابة الجب» بالإفراد. وقرأ أهل المدينة «في غيابات» بالجمع ، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع ، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد. قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، وغيابات على الجمع تجوّز ، والغيابة : كلّ شيء غيب عنك شيئا ؛ وقيل للقبر غيابة ، والمراد بها هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه ، أو طاقة فيه. قال الشاعر :
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث |
|
أنا ذاكما كما قد غيّبتني غيابيا |
والجب : البئر التي لم تطو ، ويقال لها قبل الطيّ : ركيّة ، فإذا طويت قيل لها بئر ، سمّيت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا ، وجمع الجبّ جببة وجباب وأجباب ، وجمع بين الغيابة والجبّ مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجبّ شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين. قيل : وهذه البئر ببيت المقدس ، وقيل : بالأردن ، وجواب الأمر (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) قرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة «تلتقطه» بالمثناة الفوقية ، ووجهه أن بعض السيارة سيارة. وحكي عن سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، ومنه قول الشاعر :
أرى مرّ السّنين أخذن منّي |
|
كما أخذ السّرار (١) من الهلال |
وقرأ الباقون «يلتقطه» بالتحتية ، والسيارة : الجمع الذين يسيرون في الطريق ، والالتقاط : هو أخذ شيء
__________________
(١). السرار : سرار الشهر : آخر ليلة منه.