(فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) يقولون : لا نصدّكم فيما جئتم به ، فإن عندنا فيه شكا قويا. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : عضّوا عليها. وفي لفظ : على أناملهم غيظا على رسلهم.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))
قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هؤلاء القائلون هم طائفة من المتمرّدين عن إجابة الرسل ، واللام في (لَنُخْرِجَنَّكُمْ) هي الموطئة للقسم ، أي : والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا ، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترءوا عليهم بهذا ، وخيّروهم بين الخروج من أرضهم ، أو العود في ملّتهم الكفرية ، وقد قيل : إن (أَوْ) في (أَوْ لَتَعُودُنَ) بمعنى حتى أو ، يعني : إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين ؛ وردّ بأنه لا حاجة إلى ذلك ، بل أو على بابها للتخيير بين أحد الأمرين ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأعراف. قيل : والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها ؛ وقيل : إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب الرسل على أتباعهم (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي : إلى الرسل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أي : قال لهم : لنهلكنّ الظالمين (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ) أي : أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١) ، وقال : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) (٢). وقرئ ليهلكنّ وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتبارا بقوله فأوحى ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدّم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي : موقفي ، وذلك يوم الحساب ، فإنه موقف الله سبحانه ، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة ، وبالضم فعل الإقامة ؛ وقيل : إنّ المقام هنا مصدر بمعنى القيام ، أي : لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣) وقال الأخفش : ذلك لمن خاف مقامي ، أي : عذابي (وَخافَ وَعِيدِ) أي : خاف
__________________
(١). الأعراف : ١٣٧.
(٢). الأحزاب : ٣٧.
(٣). الرعد : ٣٣.