لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجبّ ، جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوّة استعطافا له ، وتحريكا للحنوّ الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء ، وتوسّلا بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبّروه ، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه ، ف (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) أي : أيّ شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه؟ وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى. وقرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزّهري «لا تأمنا» بالإدغام بغير إشمام. وقرأ طلحة بن مصرف «لا تأمننا» بنونين ظاهرتين على الأصل. وقرأ يحيى بن وثّاب وأبو رزين والأعمش «لا تيمنا» وهو لغة تميم كما تقدّم. وقرأ سائر القرّاء بالإدغام والإشمام ليدلّ على حال الحرف قبل إدغامه (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) في حفظه وحيطته حتى نردّه إليك (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) أي إلى الصّحراء التي أرادوا الخروج إليها ، وغدا ظرف ، والأصل عند سيبويه غدو. قال النّضر بن شميل : ما بين الفجر وطلوع الشمس ، يقال له غدوة ، وكذا يقال له بكرة. (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) هذا جواب الأمر. قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين كما رواه البعض عنهم. وقرءوا أيضا بالاختلاس ، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين ، والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب رتع الإنسان أو البعير ؛ إذا أكل كيف شاء ، أو المعنى : نتسع في الخصب ، وكلّ مخصب راتع ؛ قال الشاعر :
فارعي فزارة لا هناك المرتع
ومنه قول الشاعر (١) :
ترتع ما رتعت (٢) حتى إذا ادّكرت |
|
فإنّما هي إقبال وإدبار |
والقراءة الثانية مأخوذة من : رعى الغنم. وقرأ مجاهد وقتادة (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) بالتحتية فيهما ، ورفع يلعب على الاستئناف ، والضمير ليوسف. وقال القتبي : معنى نرتع نتحارس ونتحافظ ويرعى بعضنا بعضا ، من قولهم : رعاك الله ؛ أي حفظك ، ونلعب من اللعب. قيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال : لم يكونوا يومئذ أنبياء ؛ وقيل : المراد به اللعب المباح من الأنبياء ، وهو مجرّد الانبساط ؛ وقيل : هو اللعب الذي يتعلّمون به الحرب ويتقوّون به عليه ، كما في قولهم : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) لا اللعب المحظور الذي هو ضدّ الحق ، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا : ونلعب ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم لجابر : «فهلّا بكرا تلاعبها وتلاعبك» ، فأجابهم يعقوب بقوله : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي ذهابكم به ، واللام في (لَيَحْزُنُنِي) لام الابتداء للتأكيد ولتخصيص المضارع بالحال ، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي : ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب. قال يعقوب هذا تخوّفا عليه منهم ، فكنى عن ذلك بالذئب. وقيل : إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة ، لأن ذلك المكان
__________________
(١). البيت للخنساء ، من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا.
(٢). في تفسير القرطبي (٩ / ١٣٩) : ما غفلت.