به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك ، كذا قال ابن الأنباري ؛ وقيل : المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك ؛ وقيل : إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك ، ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الفراء : للتبعيض ، أي : بعض ذرّيتي. وقال ابن الأنباري : إنها زائدة ، أي : أسكنت ذرّيتي ، والأوّل أولى ؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي : لا زرع فيه ، وهو وادي مكة (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) أي : الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره ؛ وقيل : إنه محرّم على الجبابرة ، وقيل : محرّم من أن تنتهك حرمته ، أو يستخفّ به. وقد تقدّم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة ، ثم قال : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) اللام متعلقة بأسكنت ؛ أي : أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه ، متوجّهين إليه ، متبركين به ، وخصّها دون سائر العبادات لمزيد فضلها ، ولعلّ تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) الأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب ، عبّر به عن جميع البدن ؛ لأنه أشرف عضو فيه. وقيل : هو جمع وفد والأصل أوفدة فقدّمت الفاء ، وقلبت الواو ياء ، فكأنه قال : وجعل وفودا من الناس تهوي إليهم ، و «من» في (مِنَ النَّاسِ) للتبعيض ؛ وقيل : زائدة ، ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس ، لأنّ المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحجّ ، ولو كان هذا مرادا لقال لتهوي إليه ؛ وقيل : من للابتداء ، كقولك : القلب مني سقيم ، يريد قلبي ، ومعنى تهوي إليهم : تنزع إليهم ، يقال : هوى نحوه ؛ إذا مال ، وهو الناقة تهوي هويا فهي هاوية ؛ إذا عدت عدوا شديدا كأنها تهوي في بئر ، ويحتمل أن يكون المعنى : تجيء إليهم أو تسرع إليهم ، والمعنى متقارب (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي : ارزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه ، أو تجلب إليه (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) نعمك التي أنعمت بها عليهم (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : ما نكتمه وما نظهره ؛ لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان. قيل : والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن ، فالمعنى ما نظهره وما لا نظهره ، وقدّم ما نخفي على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه. وظاهر النظم القرآني عموم كلّ ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك ؛ وقيل : المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه حيث أسكنهما بواد غير ذي زرع ، وما يعلنه من ذلك ؛ وقيل : ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء ، والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط ، بل أراد جميع العباد ، فكأن المعنى : إن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه. وأمّا قوله : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فقال جمهور المفسرين : هو من كلام الله سبحانه تصديقا لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم بما يخفيه العباد وما يعلنونه ، فقال سبحانه : وما يخفى على الله شيء من الأشياء الموجودة كائنا ما كان ، وإنما ذكر السموات والأرض لأنّها المشاهدة للعباد ، وإلا فعلمه سبحانه محيط بكلّ ما هو داخل في العالم ، وكلّ ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية. قيل : ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقا لقوله الأوّل ، وتعميما بعد التّخصيص ، ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ