لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب ، وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ (عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) هذا نوع آخر من فضائحه وقبائحهم ، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) (١) وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه من البنين على أن «ما» في محل نصب بالفعل المقدّر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء. وأنكر النصب الزجاج قال : لأن العرب لا يقولون جعل له كذا وهو يعني نفسه ، وإنما يقولون جعل لنفسه كذا ، فلو كان منصوبا لقال ولأنفسهم ما يشتهون. وقد أجاز النصب الفراء. ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) أي : إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي : متغيرا ، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض ، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ ، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسودّ وجهه غمّا وحزنا قاله الزجاج. وقال الماوردي : بل المراد سواد اللون حقيقة ، قال : وهو قول الجمهور ، والأوّل أولى ، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي ، وجملة (وَهُوَ كَظِيمٌ) في محل نصب على الحال ، أي : ممتلئ من الغمّ ، مأخوذ من الكظامة وهو سدّ فم البئر قاله عليّ ابن عيسى ، وقد تقدّم في سورة يوسف (٢) (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي : يتغيب ويختفي (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي : من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) أي : لا يزال متردّدا بين الأمرين : وهو إمساك البنت التي بشّر بها ، أو دفنها في التراب (عَلى هُونٍ) أي : هوان ، وكذا قرأ عيسى الثقفيّ. قال اليزيديّ : والهون الهوان بلغة قريش ، وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائيّ ، وحكى عن الكسائيّ أنه البلاء والمشقة ، قالت الخنساء :
نهين النفوس وهون النفو |
|
س يوم الكريهة أبقى لها |
وقال الفراء : الهون القليل بلغة تميم. وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ : «أيمسكه على سوء» (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي : يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب ، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّدا بين هذين الأمرين ، والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ. وقرأ الجحدري «أم يدسها في التراب» ويلزمه أن يقرأ أيمسكها ، وقيل : دسّها : إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم ، ومثل هذا قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٣). (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي : لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح
__________________
(١). الفرقان : ٤٤.
(٢). أي : الآية : ٨٤.
(٣). النجم : ٢١ و ٢٢.