لبعض العرب ، وأنكرها أبو حاتم وغيره. ومعنى الآية : النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور ؛ فقيل : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم ؛ وقيل : هي في شهادة الزور ، وقيل : هي في القذف. وقال القتبي : معنى الآية : لا تتبع الحدس والظنون ، وهذا صواب ، فإن ما عدا ذلك هو العلم ؛ وقيل : المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعيا كان أو ظنيا ، قال أبو السعود في تفسيره : واستعماله بهذا المعنى ممّا لا ينكر شيوعه. وأقول : إن هذه الآية قد دلّت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم ، ولكنها عامة مخصّصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ ، كالعمل بالعامّ ، وبخبر الواحد ، والعمل بالشهادة ، والاجتهاد في القبلة ، وفي جزاء الصيد ، ونحو ذلك ، فلا تخرج من عمومها ومن عموم (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) إلا ما قام دليل جواز العمل به ، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة ، فقد رخّص فيه النبي صلىاللهعليهوسلم كما في قوله صلىاللهعليهوسلم لمعاذ لما بعثه قاضيا : «بم تقضي؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : فبسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي» وهو حديث صالح للاحتجاج به ، كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة ـ ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه ـ فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أوّليا ، لأنه محض رأي في شرع الله ، وبالناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به ، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع ، وبهذا يتّضح لك أتمّ اتضاح ، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء ، والعامل بها على شفا جرف هار ، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم ، والمقلّد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلّده (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ، ولا دليل على ذلك أصلا. ثم علّل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) إشارة إلى الأعضاء الثلاثة ، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال الزجّاج : إن العرب تعبّر عمّا يعقل وعمّا لا يعقل بأولئك ، وأنشد ابن جرير مستدلا على جواز هذا قول الشاعر (١) :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى |
|
والعيش بعد أولئك الأيّام |
واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام ، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف. والضمير في كان من قوله : (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) يرجع إلى كل ، وكذا الضمير في عنه ، وقيل : الضمير في كان يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله : (وَلا تَقْفُ). وقوله : (عَنْهُ) في محل رفع لإسناد مسؤولا إليه ، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا أو مجرورا. قيل : والأولى
__________________
(١). هو جرير.