(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))
لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال ، وكان أهمها بالحفظ والرعاية مال اليتيم ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه ، ثم بيّن سبحانه أن النهي عن قربانه ، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده ، بل يجوز لوليّ اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه ، وذلك يستلزم مباشرته ، فقال : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : إلا بالخصلة التي هي أحسن الخصال ، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به. ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي : لا تقربوه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشدّه ، فإذا بلغ أشدّه كان لكم أن تدفعوه إليه ، أو تتصرّفوا فيه بإذنه ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال الزجّاج : كلّ ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد ، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه ، وما بين العباد بعضهم البعض. والوفاء بالعهد : هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي ، إلا إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أي : مسؤولا عنه ، فالمسؤول هنا هو صاحبه ، وقيل : إن العهد يسأل تبكيتا لناقضه (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي : أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) قال الزجّاج : هو ميزان العدل ، أيّ ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها ، وفيه لغتان : ضم القاف ، وكسرها. وقيل : هو القبان المسمّى بالقرسطون ؛ وقيل : هو العدل نفسه ، وهي لغة الروم ؛ وقيل : لغة سريانية. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر القسطاس بضم القاف. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى إيفاء الكيل والوزن ، وهو مبتدأ وخبره (خَيْرٌ) أي : خير لكم عند الله وعند الناس يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : أحسن عاقبة ، من آل إذا رجع. ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : لا تتبع ما لا تعلم ، من قولك : قفوت فلانا إذا اتبعت أثره ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس. وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت : قفا وقاف مثل عتا وعات. قال منذر بن سعيد البلوطي : قفا وقاف ، مثل جذب وجبذ. وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ : تقف بضم القاف وسكون الفاء. وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة