فلست لإنسيّ ولكن لملأك |
|
تنزّل من جوّ السماء يصوب |
وقرأ الحسن «ما هذا بشرى» على أن الباء حرف جرّ ، والشين مكسورة ، أي : ما هذا بعبد يشترى ، وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم ، فإنهنّ لم يقلنه لدليل ، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهنّ وذلك ممنوع ، فإن الله سبحانه يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١). وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته ، فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة ، على أن هذه المسألة ـ أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ـ ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر ، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) الإشارة إلى يوسف ، والخطاب للنسوة ، أي : عيرتنني فيه. قالت لهنّ هذا لما رأت افتتانهنّ بيوسف إظهارا لعذر نفسها ؛ ومعنى فيه : أي في حبه ؛ وقيل بالإشارة إلى الحب ، والضمير له أيضا ؛ والمعنى : فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب ، والأوّل أولى. ورجحه ابن جرير. وأصل اللوم : الوصف بالقبيح. ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهنّ ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه ، فأقرت بذلك وصرّحت بما وقع منها من المراودة له ، فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي استعف وامتنع مما أريده طالبا لعصمة نفسه عن ذلك ، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف ، فقالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدّم ذكره عند ما غلقت الأبواب وقالت هيت لك (لَيُسْجَنَنَ) أي : يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما يناله من الإهانة ، ويسلب عنه من النعمة والعزّة في زعمها ، قرئ «ليكونن» بالتثقيل والتخفيف ، قيل : والتخفيف أولى ؛ لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف ، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة ، وأما ليسجنن فبالتثقيل لا غير ؛ فلما سمع يوسف مقالها هذا ، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجيا لربه سبحانه (رَبِّ السِّجْنُ) أي : يا ربّ السجن الذي أوعدتني هذه به (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من إتيانها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخرة. قال الزجاج : أي دخول السجن ، فحذف المضاف. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ «السّجن» بفتح السين ، وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب ، وهو مصدر سجنه سجنا ، وإسناد الدعوة إليهنّ جميعا ؛ لأن النسوة رغّبنه في مطاوعتها وخوّفنه من مخالفتها ، ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهنّ جميعا ، فقال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصّه الله سبحانه في هذه السورة ، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدّم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة ؛ وقيل : إنها كانت كلّ واحدة تخلو به وحدها ، وتقول له : يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك
__________________
(١). التين : ٤.