هذه التي تزعمونها آلهة ليست بآلهة ، ثم إنه سبحانه أكّد عدم اقتدارهم ببيان غاية افتقارهم إلى الله في جلب المنافع ودفع المضارّ ، فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) فأولئك مبتدأ والذين يدعون صفته ، وضمير الصلة محذوف ، أي : يدعونهم ، وخبر المبتدأ يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، ويجوز أن يكون الذين يدعون خبر المبتدأ ، أي : الذين يدعون عباده إلى عبادتهم ، ويكون يبتغون في محل نصب على الحال. وقرأ ابن مسعود تدعون بالفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ؛ ولا خلاف في يبتغون أنه بالتحتية والوسيلة القربة بالطاعة والعبادة : أي يتضرّعون إلى الله في طلب ما يقربهم إلى ربهم ، والضمير في ربهم يعود إلى العابدين أو المعبودين (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) مبتدأ وخبر. قال الزجّاج : المعنى : أيهم أقرب بالوسيلة إلى الله ، أي : يتقرّب إليه بالعمل الصالح ، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في يبتغون ، أي : يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة ، فكيف بمن دونه؟ وقيل : إن يبتغون مضمن معنى يحرصون ، أي : يحرصون أيهم أقرب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) كما يرجوها غيرهم (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) كما يخافه غيرهم (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تعليل قوله : (يَخافُونَ عَذابَهُ) أي : إن عذابه سبحانه حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم. ثم بيّن سبحانه مآل الدنيا وأهلها فقال : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) إن نافية ، ومن للاستغراق ، أي : ما من قرية ، أيّ قرية كانت من قرى الكفار. قال الزجّاج : أي ما من أهل قرية إلا سيهلكون إما بموت وإما بعذاب يستأصلهم ، فالمراد بالقرية أهلها ، وإنما قيل قبل يوم القيامة لأن الإهلاك يوم القيامة غير مختص بالقرى الكافرة ، بل يعم كل قرية لانقضاء عمر الدنيا ؛ وقيل : الإهلاك للصالحة والتعذيب للطالحة ، والأوّل أولى لقوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (١). (كانَ ذلِكَ) المذكور من الإهلاك ، والتعذيب (فِي الْكِتابِ) أي : اللوح المحفوظ (مَسْطُوراً) أي : مكتوبا ، والسطر الخط وهو في الأصل مصدر ، والسطر بالتحريك مثله. قال جرير :
من شاء بايعته مالي وخلعته |
|
ما تكمل التّيم في ديوانها سطرا |
والخلعة بضم الخاء خيار المال ، والسطر : جمع أسطار ، وجمع السطر بالسكون أسطر. (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) قال المفسرون : إن أهل مكة سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحّي عنهم جبال مكة ، فأتاه جبريل فقال : إن شئت كان ما سأل قومك ، ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا ، وإن شئت استأنيت بهم ، فأنزل الله هذه الآية. والمعنى : وما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأوّلين ، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنّة الله سبحانه في عباده ، فالمنع مستعار للترك ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأشياء ، أي : ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا تكذيب الأوّلين ، فإن كذب بها هؤلاء كما كذب بها أولئك لاشتراكهم في الكفر والعناد حلّ بهم ما حلّ
__________________
(١). القصص : ٥٩.