لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد (يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) الذي أوتوه (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل ، وهو القشرة التي في شق النواة ، أو هو عبارة عن أقلّ شيء ولم يذكر أصحاب الشمال تصريحا ، ولكنه ذكر سبحانه ما يدلّ على حالهم القبيح فقال : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) أي من كان من المدعوّين في هذه الدنيا أعمى : أي فاقد البصيرة. قال النيسابوري : لا خلاف أن المراد بهذا العمى عمى القلب ، وأما قوله : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) فيحتمل أن يراد به عمى البصر كقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) وفي هذا زيادة العقوبة. ويحتمل أن يراد عمى القلب. وقيل : المراد بالآخرة عمل الآخرة ، أي : فهو في عمل ، أو في أمر الآخرة أعمى ؛ وقيل : المراد من عمي عن النّعم التي أنعم الله بها عليه في الدنيا فهو عن نعم الآخرة أعمى ؛ وقيل : من كان في الدنيا التي تقبل فيها التوبة أعمى فهو في الآخرة التي لا توبة فيها أعمى ؛ وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله فهو في الآخرة أعمى ، وقد قيل : إن قوله : (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أفعل تفضيل ؛ أي : أشدّ عمى ، وهذا مبنيّ على أنه من عمى القلب إذ لا يقال ذلك في عمى العين. قال الخليل وسيبويه : لأنه خلقة بمنزلة اليد والرجل ، فلا يقال ما أعماه كما لا يقال ما أيداه. وقال الأخفش : لا يقال فيه ذلك لأنه أكثر من [ثلاثة] (١) أحرف. وقد حكى الفراء عن بعض العرب أنه سمعه يقول : ما أسود شعره ، ومن ذلك قول الشاعر :
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم |
|
لؤما وأبيضهم سربال طبّاخ |
والبحث مستوفى في النحو. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف (أَعْمى) بالإمالة في الموضعين وقرأهما أبو عمرو ويعقوب والباقون بغير إمالة ، وأمال أبو عبيد الأوّل دون الثاني. (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) يعني أن هذا أضلّ سبيلا من الأعمى لكونه لا يجد طريقا إلى الهداية ، بخلاف الأعمى فقد يهتدي في بعض الأحوال. ثم لمّا عدّد سبحانه في الآيات المتقدّمة أقسام النّعم على بني آدم أردفه بما يجري مجرى التّحذير من الاغترار بوساوس الأشقياء ، فقال : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) إن هي المخفّفة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ؛ والمعنى : وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك فاتنين ، وأصل الفتنة : الاختبار ، ومنه فتن الصائغ الذّهب ، ثم استعمل في كلّ من أزال الشيء عن حدّه وجهته ، وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن ، وافتراء على الله سبحانه من تبديل الوعد بالوعيد وغير ذلك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) لتتقوّل علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحه عليك كفار قريش (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) أي : لو اتبعت أهواءهم لاتخذوك خليلا لهم ، أي : والوك وصافوك ، مأخوذ من الخلّة بفتح الخاء (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على الحق وعصمناك عن موافقتهم (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) لقاربت أن تميل إليهم أدنى ميل ، والركون : هو الميل
__________________
(١). من تفسير القرطبي (١٠ / ٢٩٩)