اليسير ، ولهذا قال : (شَيْئاً قَلِيلاً) لكن أدركته صلىاللهعليهوسلم العصمة فمنعته من أن يقرب من أدنى مراتب الركون إليهم ، فضلا عن نفس الركون ، وهذا دليل على أنه صلىاللهعليهوسلم ما همّ بإجابتهم ، ذكر معناه القشيري وغيره ؛ وقيل : المعنى : وإن كادوا ليخبرون عنك بأنك ملت إلى قولهم ، فنسب فعلهم إليه مجازا واتساعا ، كما تقول للرجل : كدت تقتل نفسك ، أي : كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت ، ذكر معناه المهدوي. ثم توعّده سبحانه في ذلك أشدّ الوعيد ، فقال : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي : لو قاربت أن تركن إليهم ، أي : مثلي ما يعذّب به غيرك ممن يفعل هذا الفعل في الدارين ، والمعنى : عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات ، أي : مضاعفا ، ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأضيفت ، وذلك لأن خطأ العظيم عظيم كما قال سبحانه : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (١) وضعف الشيء : مثلاه ، وقد يكون الضعف النصيب كقوله : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) (٢) أي : نصيب. قال الرازي : حاصل الكلام أنك لو مكّنت خواطر الشيطان من قلبك ، وعقدت على الركون همّك ، لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ؛ ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ينصرك فيدفع عنك هذا العذاب. قال النيسابوري : اعلم أن القرب من الفتنة لا يدل على الوقوع فيها ، والتهديد على المعصية لا يدلّ على الإقدام عليها ، فلا يلزم من الآية طعن في العصمة (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) الكلام في هذا كالكلام في (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) أي : وإن الشأن أنهم قاربوا أن يزعجوك من أرض مكة لتخرج عنها ، ولكنه لم يقع ذلك منهم ، بل منعهم الله منه حتى هاجر بأمر ربه بعد أن همّوا به ، وقيل : إنّه أطلق الإخراج على إرادة الإخراج تجويزا (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) معطوف على ليستفزونك ، أي : لا يبقون بعد إخراجك إلا زمنا قليلا ، ثم عوقبوا عقوبة تستأصلهم جميعا. وقرأ عطاء بن أبي رباح لا يلبثوا بتشديد الباء الموحدة. وقرئ لا يلبثوا بالنصب على إعمال إذن على أن الجملة معطوف على جملة : (وَإِنْ كادُوا) لا على الخبر فقط. وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر وأبو عمرو (خَلْفَكَ) ومعناه بعدك. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي (خِلافَكَ) ومعناه أيضا بعدك. وقال ابن الأنباري : خلافك بمعنى مخالفتك ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية لقوله : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) (٣) وممّا يدلّ على أن خلاف بمعنى بعد قول الشاعر (٤) :
عفت الدّيار خلافها (٥) فكأنّما |
|
بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا |
يقال : شطبت المرأة الجريد إذا شقّته لتعمل منه الحصر. قال أبو عبيدة : ثم تلقيه الشاطبة إلى المنقّية (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) سنة منتصبة على المصدرية ، أي : سنّ الله سنة. وقال الفراء : أي يعذبون كسنّة من قد أرسلنا ، فلما سقط الخافض عمل الفعل. وقيل المعنى : سنّتنا سنّة من قد أرسلنا. قال الزجّاج : يقول إن سنّتنا هذه السنة فيمن أرسلنا قبلك إليهم أنهم إذا أخرجوا نبيهم من بين أظهرهم أو قتلوه
__________________
(١). الأحزاب : ٣٠.
(٢). الأعراف : ٣٨.
(٣). التوبة : ٨١.
(٤). هو الحارث بن خالد المخزومي.
(٥). كذا في مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٨٧) ، وابن جرير (١٥ / ١٣٣) وفي تفسير القرطبي : خلافهم.