فالأمر له أمر لأمته ، فهو شرع عام ، ومن ذلك الترغيب في صلاة الليل ، فإنه يعمّ جميع الأمة ، والتصريح بكونه نافلة يدلّ على عدم الوجوب ، فالتهجد من الليل مندوب إليه ومشروع لكل مكلّف. ثم وعده سبحانه على إقامة الفرائض والنوافل فقال : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قد ذكرنا في مواضع أن عسى من الكريم إطماع واجب الوقوع ، وانتصاب مقاما على الظرفية بإضمار فعل ، أو بتضمين البعث معنى الإقامة ، ويجوز أن يكون انتصابه على الحال ؛ أي : يبعثك ذا مقام محمود ؛ ومعنى كون المقام محمودا ؛ أنه يحمده كل من علم به. وقد اختلف في تعيين هذا المقام على أقوال : الأوّل أنه المقام الذي يقومه النبي صلىاللهعليهوسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ليريحهم ربهم سبحانه ممّا هم فيه ، وهذا القول هو الذي دلت عليه الأدلة الصحيحة في تفسير الآية ، وحكاه ابن جرير عن أكثر أهل التأويل. قال الواحدي : وإجماع المفسرين على أن المقام المحمود هو مقام الشفاعة. القول الثاني : أن المقام المحمود إعطاء النبي صلىاللهعليهوسلم لواء الحمد يوم القيامة. ويمكن أن يقال إن هذا لا ينافي القول الأوّل ، إذ لا منافاة بين كونه قائما مقام الشفاعة وبيده لواء الحمد. القول الثالث : أن المقام المحمود هو أن الله سبحانه يجلس محمدا صلىاللهعليهوسلم معه على كرسيه ، حكاه ابن جرير عن فرقة منهم مجاهد ، وقد ورد في ذلك حديث. وحكى النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متّهم ، ما زال أهل العلم يتحدّثون بهذا الحديث. قال ابن عبد البرّ : مجاهد وإن كان أحد الأئمة بالتأويل فإن له قولين مهجورين عند أهل العلم : أحدهما هذا ، والثاني في تأويل : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ـ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) قال : معناه تنتظر الثواب ، وليس من النظر ، انتهى. وعلى كل حال فهذا القول غير مناف للقول الأوّل لإمكان أن يقعده الله سبحانه هذا المقعد ويشفع تلك الشفاعة. القول الرابع : أنه مطلق في كل مقام يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، ذكره صاحب الكشاف والمقتدون به في التفسير ، ويجاب عنه بأن الأحاديث الصحيحة الواردة في تعيين هذا المقام المحمود متواترة ، فالمصير إليها متعين ، وليس في الآية عموم في اللفظ حتى يقال : الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى قوله وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد أنه عام في كل ما هو كذلك ، ولكنه يعبر عن العام بلفظ المطلق ، كما ذكره في ذبح البقرة ، ولهذا قال هنا. وقيل : المراد الشفاعة ، وهي نوع واحد مما يتناوله يعني لفظ المقام ، والفرق بين العموم البدليّ والعموم الشموليّ معروف ، فلا نطيل بذكره (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) وقرأ الجمهور (مُدْخَلَ صِدْقٍ) و (مُخْرَجَ صِدْقٍ) بضم الميمين. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم بفتحهما ، وهما مصدران بمعنى الإدخال والإخراج ، والإضافة إلى الصدق لأجل المبالغة نحو حاتم الجود ؛ أي : إدخالا يستأهل أن يسمّى إدخالا ، ولا يرى فيه ما يكره. قال الواحدي : وإضافتهما إلى الصدق مدح لهما ، وكل شيء أضفته إلى الصدق فهو مدح.
وقد اختلف المفسّرون في معنى الآية ، فقيل : نزلت حين أمر بالهجرة ، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة واختاره ابن جرير ؛ وقيل : المعنى : أمتني إماتة صدق وابعثني يوم القيامة مبعث صدق ؛ وقيل المعنى :
__________________
(١). القيامة : ٢٢ ـ ٢٣.