أدخلني فيما أمرتني به ، وأخرجني مما نهيتني عنه ؛ وقيل : إدخاله موضع الأمن وإخراجه من بين المشركين ، وهو كالقول الأوّل ؛ وقيل : المراد إدخال عزّ وإخراج نصر ؛ وقيل : المعنى : أدخلني في الأمر الذي أكرمتني به من النبوّة مدخل صدق ، وأخرجني منه إذا أمتني مخرج صدق ؛ وقيل : أدخلني القبر عند الموت مدخل صدق ، وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق ؛ وقيل : أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق وأخرجني بالصدق ؛ وقيل : الآية عامة في كل ما تتناوله من الأمور فهي دعاء ، ومعناها : ربّ أصلح لي وردي في كل الأمور وصدري عنها (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي : حجة ظاهرة قاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني ، وقيل : اجعل لي من لدنك ملكا وعزا قويّا ، وكأنه صلىاللهعليهوسلم علم أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا. وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن جرير. قال ابن كثير : وهو الأرجح ، لأنه لا بدّ مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (١). وفي الحديث : «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي : ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمنع كثيرا من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع ، انتهى. (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) المراد بالحق الإسلام ، وقيل : القرآن ، وقيل : الجهاد ، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك وعلى ما هو حق كائنا ما كان ، والمراد بالباطل الشرك ؛ وقيل : الشيطان ولا يبعد أن يحمل على كل ما يقابل الحق من غير فرق بين باطل وباطل. ومعنى زهق : بطل واضمحل ، ومنه زهوق النفس وهو بطلانها (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) أي : إن هذا شأنه فهو يبطل ولا يثبت ، والحق ثابت دائما (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) قرأ الجمهور (نُنَزِّلُ) بالنون (٢). وقرأ أبو عمرو بالتخفيف. وقرأ مجاهد بالياء التحتية والتخفيف ، ورواها المروزي عن حفص ، ومن لابتداء الغاية ، ويصحّ أن تكون لبيان الجنس ، وقيل : للتبعيض ، وأنكره بعض المفسرين لاستلزامه أن بعضه لا شفاء فيه ، وردّه ابن عطية بأن المبعض هو إنزاله.
واختلف أهل العلم في معنى كونه شفاء على القولين ؛ الأوّل : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وذهاب الريب وكشف الغطاء عن الأمور الدالة على الله سبحانه. القول الثاني : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوّذ ونحو ذلك ، ولا مانع من حمل الشفاء على المعنيين من باب عموم المجاز ، أو من باب حمل المشترك على معنييه. ثم ذكر سبحانه أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من العلوم النافعة المشتملة على ما فيه صلاح الدين والدنيا ، ولما في تلاوته وتدبّره من الأجر العظيم الذي يكون سببا لرحمة الله سبحانه ومغفرته ورضوانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (٣). ثم لما ذكر سبحانه ما في القرآن من المنفعة لعباده المؤمنين ذكر ما فيه لمن عداهم من المضرّة عليهم فقال : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي : ولا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الظالمين الذي وضعوا التكذيب موضع
__________________
(١). الحديد : ٢٥.
(٢). (قوله بالنون) ، صوابه : بالنون والتشديد للزاي.
(٣). فصلت : ٤٤.