التصديق ، والشك والارتياب موضع اليقين والاطمئنان (إِلَّا خَساراً) أي : هلاكا ؛ لأن سماع القرآن يغيظهم ويحنقهم ويدعوهم إلى زيادة ارتكاب القبائح تمرّدا وعنادا ، فعند ذلك يهلكون ؛ وقيل : الخسار : النقص ، كقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (١) ثم نبّه سبحانه على فتح بعض ما جبل عليه الإنسان من الطبائع المذمومة فقال : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي : على هذا الجنس بالنعم التي توجب الشكر كالصحة والغنى (أَعْرَضَ) عن الشكر لله والذكر له (وَنَأى بِجانِبِهِ) النأي : البعد ، والباء للتعدية أو للمصاحبة ، وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه ، أي : ناحيته ، والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره ، ولا يبعد أن يراد بالإعراض هنا الإعراض عن الدعاء والابتهال الذي كان يفعله عند نزول البلوى والمحنة به ، ويراد بالنأي بجانبه التكبر والبعد بنفسه عن القيام بحقوق النعم. وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر «ناء» مثل باغ بتأخير الهمزة على القلب ، وقرأ حمزة «نئي» بإمالة الفتحتين ، ووافقه الكسائي ، وأمال شعبة والسوسي الهمزة فقط. وقرأ الباقون بالفتح فيهما. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) من مرض أو فقر (كانَ يَؤُساً) شديد اليأس من رحمة الله ؛ والمعنى : أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي ، وظفر بالمقصود نسي المعبود ، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف ، وغلب عليه القنوط ، وكلتا الخصلتين قبيحة مذمومة ، ولا ينافي ما في هذه الآية قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) (٢) ونظائره ، فإن ذلك شأن بعض آخر منهم غير البعض المذكور في هذه الآية ، ولا يبعد أن يقال لا منافاة بين الآيتين فقد يكون مع شدة يأسه وكثرة قنوطه كثير الدعاء بلسانه (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) الشاكلة قال الفراء : الطريقة ، وقيل : الناحية ، وقيل : الطبيعة ، وقيل : الدين ، وقيل : النية ، وقيل : الجبلّة ، وهي مأخوذة من الشكل ، يقال : لست على شكلي ولا على شاكلتي ، والشكل : هو المثل والنظير. والمعنى : أن كل إنسان يعمل على ما يشاكل أخلاقه التي ألفها ، وهذا ذمّ للكافر ومدح للمؤمن (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) لأنه الخالق لكم العالم بما جبلتم عليه من الطبائع وما تباينتم فيه من الطرائق ، فهو الذي يميز بين المؤمن الذي لا يعرض عند النعمة ولا ييأس عند المحنة ، وبين الكافر الذي شأنه البطر للنعم والقنوط عند النقم. ثم لما انجرّ الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل عليه ، ذكر سبحانه سؤال السائلين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الروح فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قد اختلف الناس في الروح المسؤول عنه ، فقيل : هو الروح المدبّر للبدن الذي تكون به حياته ، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء : الروح الذي يعيش به الإنسان لم يخبر الله سبحانه به أحدا من خلقه ، ولم يعط علمه أحدا من عباده ، فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي : إنكم لا تعملونه ، وقيل : الروح المسؤول عنه جبريل ، وقيل : عيسى ، وقيل : القرآن ، وقيل : ملك من الملائكة عظيم الخلق ، وقيل : خلق كخلق بني آدم ، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته ولا فائدة في إيراده ، والظاهر القول الأوّل ، وسيأتي ذكر سبب نزول هذه الآية ، وبيان السائلين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الروح ، ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح ، لأن معرفة حقيقة الشيء أهمّ وأقدم من معرفة حال من أحواله ، ثم
__________________
(١). التوبة : ١٢٥.
(٢). فصلت : ٥١.