الإيمان بالكتاب وبالرسول ، وعبّر عنه بالقول للإشعار بأنه ليس إلا مجرد قول قالوه بأفواههم ، ثم أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجيب عن شبهتهم هذه ، فقال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : لو وجد وثبت أن في الأرض بدل من فيها من البشر ملائكة يمشون على الأقدام كما يمشي الإنس مطمئنين مستقرين فيها ساكنين بها. قال الزجّاج : مطمئنين : مستوطنين في الأرض ، ومعنى الطمأنينة السكون ، فالمراد هاهنا المقام والاستيطان ، فإنه يقال سكن البلد فلان إذا أقام فيها وإن كان ماشيا متقلّبا في حاجاته (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) حتى يكون من جنسهم ، وفيه إعلام من الله سبحانه بأن الرسل ينبغي أن تكون من جنس المرسل إليهم ، فكأنّه سبحانه اعتبر في تنزيل الرسول من جنس الملائكة أمرين : الأوّل : كون سكان الأرض ملائكة. والثاني : كونهم ماشين على الأقدام غير قادرين على الطيران بأجنحتهم إلى السماء ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لطاروا إليها ، وسمعوا من أهلها ما يجب معرفته وسماعه ، فلا يكون في بعثة الملائكة إليهم فائدة. وانتصاب بشرا وملكا على أنهما مفعولان للفعلين ، ورسولا في الموضعين وصف لهما. وجوّز صاحب الكشاف أن يكونا حالين في الموضعين من رسولا فيهما وقوّاه صاحب الكشاف ، ولعل وجه ذلك أن الإنكار يتوجه إلى الرسول المتصف بالبشرية في الموضع الأوّل ، فيلزم بحكم التقابل أن يكون الآخر كذلك ، ثم ختم الكلام بما يجري مجرى التهديد ، فقال : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي : قل لهم يا محمد من جهتك كفى بالله وحده شهيدا على إبلاغي إليكم ما أمرني به من أمور الرسالة ، وقال بيني وبينكم ، ولم يقل بيننا ، تحقيقا للمفارقة الكلية ؛ وقيل : إن إظهار المعجزة على وفق دعوى النبيّ شهادة من الله له على الصدق ، ثم علّل كونه سبحانه شهيدا كافيا بقوله : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي : عالما بجميع أحوالهم محيطا بظواهرها وبواطنها بصيرا بما كان منها وما يكون ، ثم بيّن سبحانه أن الإقرار والإنكار مستندان إلى مشيئته فقال : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) أي : من يرد الله هدايته فهو المهتدي إلى الحق أو إلى كل مطلوب (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : يرد إضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) ينصرونهم (مِنْ دُونِهِ) يعني الله سبحانه ويهدونهم إلى الحق الذي أضلّهم الله عنه أو إلى طريق النجاة ، وقوله : (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) حملا على لفظ من ، وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) حملا على المعنى ، والخطاب في قوله : فلن تجد إما للنبي صلىاللهعليهوسلم ، أو لكلّ من يصلح له (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) هذا الحشر على الوجوه فيه وجهان للمفسرين : الأوّل : أنه عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم ، من قول العرب : قد مرّ القوم على وجوههم ؛ إذا أسرعوا. الثاني : أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم حقيقة كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١) ، ولما صحّ في السّنّة كما سيأتي ، ومحل على وجوههم النصب على الحال من ضمير المفعول و (عُمْياً) منتصب على الحال (وَبُكْماً وَصُمًّا) معطوفان عليه ، والأبكم : الذي لا ينطق ، والأصمّ : الذي لا يسمع ، وهذه هيئة يبعثون عليها في أقبح صورة ، وأشنع منظر ، قد جمع الله لهم بين عمى البصر وعدم النطق وعدم السمع مع كونهم مسحوبين على وجوههم ، ثم من وراء ذلك
__________________
(١). القمر : ٤٨.