(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي : المكان الذي يأوون إليه ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة لا محل لها (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي : كلما سكن لهبها ، يقال : خبت النار تخبو خبوا : إذا خمدت وسكن لهبها. قال ابن قتيبة : ومعنى (زِدْناهُمْ سَعِيراً) تسعرا ، وهو التلهب. وقد قيل : إن في خبوّ النار تخفيفا لعذاب أهلها ، فكيف يجمع بينه وبين قوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) (١)؟ وأجيب بأن المراد بعدم التخفيف أنه لا يتخلل زمان محسوس بين الخبوّ والتسعر ؛ وقيل : إنها تخبو من غير تخفيف عنهم من عذابها (ذلِكَ) أي : العذاب (جَزاؤُهُمْ) الذي أوجبه الله لهم واستحقوه عنده ، والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) للسببية ، أي : بسبب كفرهم بها فلم يصدّقوا بالآيات التنزيلية ولا تفكّروا في الآيات التكوينية ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره جزاؤهم ، وبأنهم كفروا خبر آخر ، ويجوز أن يكون جزاؤهم مبتدأ ثانيا ، وخبره ما بعده ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الهمزة للإنكار ، وقد تقدّم تفسير الآية في هذه السورة ، وخلقا في قوله : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) مصدر من غير لفظه أو حال ، أي : مخلوقين. فجاء سبحانه بحجّة تدفعهم عن الإنكار وتردّهم عن الجحود. فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : من هو قادر على خلق هذا ، فهو على إعادة ما هو أدون منه أقدر ، وقيل : المراد أنه قادر على إفنائهم وإيجاد غيرهم ، وعلى القول الأوّل يكون الخلق بمعنى الإعادة ، وعلى هذا القول هو على حقيقته ، وجملة (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) عطف على أو لم يروا ، والمعنى : قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم ، لأنهم ليسوا بأشدّ خلقا منهنّ كما قال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (٢). (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) وهو الموت أو القيامة ، ويحتمل أن تكون الواو للاستئناف ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ، وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ، قادر على أن يخلق مثلهم (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي : أبى المشركون إلا جحودا ، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للحكم عليهم بالظلم ومجاوزة الحدّ ؛ ثم لما وقع من هؤلاء الكفار طلب إجراء الأنهار والعيون في أراضيهم لتتّسع معايشهم ، بيّن الله سبحانه أنهم لا يقنعون ، بل يبقون على بخلهم وشحّهم ، فقال : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أنتم مرتفع على أنه فاعل فعل محذوف يفسره ما بعده ، أي : لو تملكون أنتم تملكون ، على أن الضمير المنفصل مبدل من الضمير المتصل وهو الواو ، وخزائن رحمته سبحانه : هي خزائن الأرزاق. قال الزجّاج : أعلمهم الله أنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لأمسكوا شحّا وبخلا ، وهو خشية الإنفاق ، أي : خشية أن ينفقوا فيفتقروا ، وفي حذف الفعل الذي ارتفع به أنتم ، وإيراد الكلام في صورة المبتدأ والخبر دلالة على أنهم هم المختصّون بالشحّ. قال أهل اللغة : أنفق وأصرم وأعدم وأقتر ؛ بمعنى قلّ ماله ، فيكون المعنى : لأمسكتم خشية قلّ المال (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي : بخيلا مضيّقا عليه. يقال : قتر على عياله يقتر ويقتر قترا وقتورا : ضيّق عليهم في النفقة ، ويجوز أن يراد (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي : قليل المال ، والظاهر أن المراد المبالغة في وصفه بالشحّ ، لأن الإنسان ليس
__________________
(١). البقرة : ١٦٢.
(٢). النازعات : ٢٧.