لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبّه على كمال القرآن فقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) قال ابن الأنباري : سمّي المداد مدادا لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء ، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداد ، والمراد بالبحر هنا الجنس. والمعنى : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وفرض أن جنس البحر مدادا لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات ، ولو جئنا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا ، وقيل في بيان المعنى : لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) وقوله : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله : (قُلْ لَوْ كانَ) وفيه زيادة مبالغة وتأكيد ، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها ، أي : لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مدادا ولو جئنا بمثله مددا ، والمدد الزيادة ؛ وقيل : عني سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى ، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد ، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع ، قال الأعشى :
ووجه نقيّ اللون صاف يزينه |
|
مع الجيد لبّات لها ومعاصم |
فعبّر باللبات عن اللبة. قال الجبائي : إن قوله : (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة ، وما ثبت عدمه امتنع قدمه. وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية ؛ وقيل في الجواب : إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدلّ على نفاد الشيء الآخر ، ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر ؛ أما أنها متناهية ، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية. والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته ، وهي غير متناهية ، فالكلمات غير متناهية. وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ولو جئنا بمثله مدادا وهي كذلك في مصحف أبيّ ، وقرأ الباقون (مَدَداً) وقرأ حمزة والكسائي قبل أن ينفد بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، ثم أمر سبحانه نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يسلك مسلك التواضع ، فقال : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطّاها إلى الملكية ، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال : (يُوحى إِلَيَ) وكفى بهذا الوصف فارقا بينه وبين سائر أنواع البشر ، ثم بين أن الذي أوحي إليه هو قوله : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له في ألوهيته ، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل ، والمعنى ، من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) وهو ما دلّ الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) من خلقه سواء كان صالحا ، أو طالحا ، حيوانا أو جمادا ، قال الماوردي : قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية : إن المعنى لا يرائي بعمله أحدا. وأقول : إن دخول الشرك الجليّ الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدّم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء ، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها ، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.