غير مضيّ مدة للحمل ، ويدلّ على ذلك قوله : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أي : تنحّت واعتزلت إلى مكان بعيد ، والقصّي : هو البعيد. قيل : كان هذا المكان وراء الجبل ، وقيل : أبعد مكان في تلك الدار ، وقيل : أقصى الوادي ، وقيل : إنها حملت به ستة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : سبعة (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي : ألجأها واضطرها ، ومنه قول زهير :
أجاءته المخافة والرّجاء (١)
وقرأ شبيل فاجأها من المفاجأة ، ورويت هذه القراءة عن عاصم ، وقرأ الحسن بغير همز ، وفي مصحف أبيّ فلمّا أجاءها قال في الكشاف : إن أجاءها منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء ، وفيه بعد ، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقلّ ، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخاضا ومخاضا ؛ إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم ، وقرأ ابن كثير بكسرها ، والجذع : ساق النخلة اليابسة ، كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به ، كما تتعلق الحامل ؛ لشدّة وجع الطلق بشيء ممّا تجده عندها ، والتعريف إما للجنس أو للعهد (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) أي : قبل هذا الوقت ، تمنّت الموت لأنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها ، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان (وَكُنْتُ نَسْياً) النّسي في كلام العرب : الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ، ولا يذكر ، ولا يتألم لفقده ؛ كالوتد والحبل ، ومنه قول الكميت :
أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة |
|
ولسنا بنسي في معدّ ولا دخل |
وقال الفراء : النّسي : ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ، فتقول مريم (نَسْياً مَنْسِيًّا) أي : حيضة ملقاة ، وقد قرئ بفتح النون وكسرها ، وهما لغتان مثل الحجر والحجر ، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي نسئا بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرأ بكر بن حبيب نسيّا بفتح النون وتشديد الياء بدون همز ، والمنسي : المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس (فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي : جبريل لما سمع قولها ، وكان أسفل منها تحت الأكمة ، وقيل : تحت النخلة ، وقيل : المنادي هو عيسى. وقد قرئ بفتح الميم من (مِنْ) وكسرها. وقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) تفسير للنداء ؛ أي : لا تحزني ، أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال جمهور المفسرين : السريّ النهر الصغير ، المعنى : قد جعل ربك تحت قدمك نهرا. قيل : كان نهرا قد انقطع عنه الماء ، فأرسل الله فيه الماء لمريم ، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر ؛ وقيل : المراد بالسريّ هنا عيسى ، والسريّ : العظيم من الرجال ؛ ومنه قولهم فلان سريّ ، أي : عظيم ، ومن قوم سراة ، أي : عظام (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) الهزّ التحريك : يقال هزّه فاهتزّ ، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد. وقال الفراء : العرب تقول هزّه وهزّ به ، والجذع : هو أسفل الشجرة. قال قطرب : كلّ خشبة
__________________
(١). وصدره : وجار سار معتمدا إلينا.