قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي : قبل مشركي مكة. ومعنى (مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية ، ووصف القرية بقوله :
(أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، أو أهلكناها بإهلاك أهلها ، وفيه بيان سنّة الله في الأمم السالفة أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ، ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، و «من» في (مِنْ قَرْيَةٍ) مزيدة للتأكيد. والمعنى : ما آمنت قرية من القرى التي أهلكناها بسبب اقتراحهم قبل هؤلاء ، فكيف نعطيهم ما يقترحون ، وهم أسوة من قبلهم. والهمزة في (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا ، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا ، ثم أجاب سبحانه عن قولهم : «هل هذا إلا بشر مثلكم» بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي : لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالا من البشر ، ولم نرسل إليهم ملائكة ، كما قال سبحانه : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١) وجملة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) مستأنفة لبيان كيفية الإرسال ، ويجوز أن تكون صفة ل «رجالا» ، أي : متّصفين بصفة الإيحاء إليهم. قرأ حفص وحمزة والكسائي (نُوحِي) بالنون ، وقرأ الباقون بالياء «يوحى». ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا ، فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وأهل الذكر هم أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) : إن كنتم لا تعلمون أنّ رسل الله من البشر ، كذا قال أكثر المفسرين. وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه ، وتقدير الكلام : إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر. وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز ، وهو خطأ ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة ، لا عن الرأي البحت ، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته. وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة سمّيناها «القول المفيد في حكم التقليد». ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكّد كون الرسل من جنس البشر فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي : أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة ، يأكلون كما يأكلون ، ويشربون كما يشربون ، والجسد جسم الإنسان. قال الزجاج : هو واحد ، يعني الجسد ينبئ عن جماعة ، أي : وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام ، فجملة «لا يأكلون الطعام» صفة ل «جسدا» ، أي : وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل ، بل هو محتاج إلى ذلك (وَما كانُوا خالِدِينَ) بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر ، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون ، فأجاب الله عليهم بهذا ، وجملة (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) معطوفة على جملة يدلّ عليها السياق ، والتقدير : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم الوعد ، أي : أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم ، ولهذا قال سبحانه : (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من عبادنا المؤمنين ، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي ، والمراد ب (الْمُسْرِفِينَ) المجاوزون للحدّ في الكفر والمعاصي ، وهم المشركون.
__________________
(١). الإسراء : ٩٥.