عليهم ، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية. (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) الميد : التحرّك والدوران ، أي : لئلا تتحرك وتدور بهم ، أو كراهة ذلك ، وقد تقدّم تفسير ذلك في النحل مستوفى. (وَجَعَلْنا فِيها) أي : في الرواسي ، أو في الأرض (فِجاجاً) ، قال أبو عبيدة : هي المسالك. وقال الزجّاج : كلّ مخترق بين جبلين فهو فج و (سُبُلاً) تفسير للفجاج ؛ لأنّ الفجّ قد لا يكون طريقا نافذا مسلوكا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى مصالح معاشهم ، وما تدعو إليه حاجاتهم (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن أن يقع ويسقط على الأرض ، كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) (١) وقال الفراء : محفوظا بالنجوم من الشيطان ، كقوله : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢) وقيل : محفوظا لا يحتاج إلى عماد ، وقيل : المراد بالمحفوظ هنا المرفوع ، وقيل : محفوظا عن الشرك والمعاصي ، وقيل : محفوظا عن الهدم والنقض (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) أضاف الآيات إلى السماء ؛ لأنها مجعولة فيها ، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما ، ومعنى الإعراض أنهم لا يتدبرون فيها ، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم ، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه ، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم ، وخلق الشمس والقمر ، أي : جعل الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل ، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان (٣).(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون ، أي : يجرون في وسط الفلك ، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء ، والجمع في الفعل باعتبار المطالع ، قال سيبويه : إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل ، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل ، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء ، ولم يقل يسبحن أو تسبح ، وكذا قال الفراء. وقال الكسائي : إنما قال يسبحون لأنه رأس آية ، والفلك واحد أفلاك النجوم ، وأصل الكلمة من الدوران ، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي : دوام البقاء في الدنيا (أَفَإِنْ مِتَ) بأجلك المحتوم (فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي : أفهم الخالدون. قال الفراء : جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال : ويجوز حذف الفاء وإضمارها ، والمعنى : إن متّ فهم يموتون أيضا ، فلا شماتة في الموت. وقرئ (مِتَ) بكسر الميم وضمها لغتان ، وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٤). (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي : ذائقة مفارقة جسدها ، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائنا ما كان (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) أي : نختبركم بالشدّة والرخاء ، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم ، وفتنة مصدر لنبلوكم من غير لفظه (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : قالت اليهود إن الله عزوجل صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة ، فقال الله تكذيبا لهم (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي : الملائكة ليس كما قالوا ، بل عباد أكرمهم بعبادته
__________________
(١). الحج : ٦٥.
(٢). الحجر : ١٧.
(٣). أي سورة الإسراء.
(٤). الطور : ٣٠.