والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الدعاء المفهوم من الفعل وهو يدعو ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي : عن الحق والرشد ، مستعار من ضلال من سلك غير الطريق ، فصار بضلاله بعيدا عنها. قال الفرّاء : البعيد : الطويل. (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) يدعو بمعنى يقول ، والجملة مقرّرة لما قبلها من كون ذلك الدعاء ضلالا بعيدا. والأصنام لا نفع فيها بحال من الأحوال ، بل هي ضرر بحت لمن يعبدها ، لأنه دخل النار بسبب عبادتها ، وإيراد صيغة التفضيل مع عدم النفع بالمرّة للمبالغة في تقبيح حال ذلك الداعي ، أو ذلك من باب (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١) اللام هي الموطئة للقسم ، ومن : موصولة أو موصوفة ، وضرّه مبتدأ خبره أقرب ، والجملة صلة الموصول. وجملة (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) جواب القسم ، والمعنى : أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة لمعبوده الذي ضرّه أقرب من نفعه : لبئس المولى أنت ولبئس العشير. والمولى : الناصر ، والعشير : الصاحب ، ومثل ما في هذه الآية قول عنترة :
يدعون عنتر والرّماح كأنّها |
|
أشطان بئر في لبان الأدهم (٢) |
وقال الزجّاج : يجوز أن يكون «يدعو» في موضع الحال ، وفيه هاء محذوفة ؛ أي : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، وعلى هذا يوقف على يدعو ، ويكون قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) كلاما مستأنفا مرفوعا بالابتداء ، وخبره (لَبِئْسَ الْمَوْلى). قال : وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أوّل الكلام. وقال الزجّاج والفراء : يجوز أن يكون «يدعو» مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء ؛ أي : يدعو ما لا يضرّه ولا ينفعه يدعو ، مثل : ضربت زيدا ضربت. وقال الفرّاء والكسائي والزجّاج : معنى الكلام القسم ، واللام مقدّمة على موضعها ، والتقدير : يدعو من لضرّه أقرب من نفعه ، فمن في موضع نصب بيدعو ، واللام جواب القسم وضرّه مبتدأ ، و «أقرب» خبره ، ومن التصرّف في اللام بالتقديم والتأخير قول الشاعر :
خالي لأنت ومن جرير خاله |
|
ينل العلاء ويكرم الأخوالا |
أي لخالي أنت. قال النحّاس : وحكى لنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد قال : في الكلام حذف ، والمعنى : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلها. قال النحاس : وأحسب هذا القول غلطا على محمد بن يزيد ، ولعل وجهه أن ما قبل اللام هذه لا يعمل فيهما بعدها. وقال الفراء أيضا والقفال : اللام صلة ، أي : زائدة ، والمعنى : يدعو من ضرّه أقرب من نفعه ، أي : يعبده ، وهكذا في قراءة عبد الله بن مسعود بحذف اللام ، وتكون اللام في (لَبِئْسَ الْمَوْلى) وفي (لَبِئْسَ الْعَشِيرُ) على هذا موطئة للقسم. (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما فرغ من ذكر حال المشركين ، ومن يعبد الله على حرف ذكر حال المؤمنين في الآخرة ، وأخبر أنه يدخلهم هذه الجنات المتصفة بهذه الصفة ، وقد تقدم
__________________
(١). المنافقون : ٥.
(٢). «أشطان» : جمع شطن وهو الحبل الذي يستقى به. «اللبان» : الصدر. «الأدهم» : الفرس.