الكلام في جرى الأنهار من تحت الجنات ، وبيّنّا أنه إن أريد بها الأشجار المتكاثفة الساترة لما تحتها ، فجريان الأنهار من تحتها ظاهر ؛ وإن أريد بها الأرض فلا بدّ من تقدير مضاف ، أي : من تحت أشجارها (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) هذه الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يفعل ما يريده من الأفعال (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) قال النحاس : من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي : فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي : ثم ليقطع النصر إن تهيأ له (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) وحيلته (ما يَغِيظُ) من نصر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقيل : المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا حتى يظهره على الدين كله فليمت غيظا ، ثم فسّره بقوله : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي : فليشدد حبلا في سقف بيته (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي : ثم ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقا ، والمعنى : فليختنق غيظا حتى يموت ، فإن الله ناصره ومظهره ، ولا ينفعه غيظه ؛ ومعنى «فلينظر هل يذهبن كيده» : أي صنيعه وحيله ، «ما يغيظ» : أي غيظه ، و «ما» مصدرية. وقيل : إن الضمير في «ينصره» يعود إلى «من» ، والمعنى : من كان يظنّ أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه ، وبه قال أبو عبيدة. وقيل : إن الضمير يعود إلى الدين ، أي : من كان يظنّ أن لن ينصر الله دينه. وقرأ الكوفيون بإسكان اللام في : «ثم ليقطع» قال النحاس : وهذه القراءة بعيدة من العربية (١). (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي : مثل ذلك الإنزال البديع أنزلناه آيات واضحات ظاهرة الدلالة على مدلولاتها (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) هدايته ابتداء أو زيادة فيها لمن كان مهديا من قبل.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال : لاوي عنقه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس والسدّي وابن يزيد وابن جريج : أنه المعرض. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال : أنزلت في النضر بن الحارث. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : هو رجل من بني عبد الدار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال : مستكبرا في نفسه. وأخرج البخاري وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما وأنتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبيّ صلىاللهعليهوسلم يسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا : إنّ ديننا هذا لصالح فتمسّكوا به ، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير ، فأنزل الله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ).
__________________
(١). وذلك لأن «لمّ» ليست مثل الواو والفاء ؛ لأنها يوقف عليها وتنفرد.