الله ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل ومن بعده. والثالث : قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) وفي هذا إضراب وانتقال من التوبيخ بما تقدّم إلى التوبيخ بوجه آخر ، أي : بل ألم يعرفوه بالأمانة والصدق فأنكروه ، ومعلوم أنهم قد عرفوه بذلك. والرابع : قوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) وهذا أيضا انتقال من توبيخ إلى توبيخ ، أي : بل أتقولون به جنة ، أي : جنون ، مع أنهم قد علموا أنه أرجح الناس عقلا ، ولكنه جاء بما يخالف هواهم ، فدفعوه وجحدوه تعصّبا وحميّة. ثم أضرب سبحانه عن ذلك كلّه فقال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) أي : ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول ، بل جاءهم ملتبسا بالحق ، والحق : هو الدين القويم. (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما جبلوا عليه من التعصب ، والانحراف عن الصواب ، والبعد عن الحق ، فلذلك كرهوا هذا الحق الواضح الظاهر. وظاهر النظم أن أقلّهم كانوا لا يكرهون الحق ، ولكنهم لم يظهروا الإيمان خوفا من الكارهين له. وجملة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق على ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم ، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية ، وهو معنى قوله : (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسدّي : الحق هو الله ، والمعنى : لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السماوات والأرض. وقال الفرّاء والزّجّاج : يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن ، أي : لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم. وقيل : المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلفت الآلهة ، ومثل ذلك قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) وقد ذهب إلى القول الأوّل الأكثرون ، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه ، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله ، والمعنى : ولو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد. والمراد بقوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) من في السماوات والأرض من المخلوقات. وقرأ ابن مسعود «وما بينهما» وسبب فساد المكلّفين من بني آدم ظاهر ، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق ، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع ؛ لأنهم مدبّرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدوا فسدوا. ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) والمراد بالذكر هنا القرآن ، أي : بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم ، ومثله قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٢) والمعنى : بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه ، ويقبلوا عليه. وقال قتادة : المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل : المعنى : بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر «أتيتهم» بتاء المتكلم. وقرأ أبو حيوة والجحدري «أتيتهم» بتاء الخطاب ، أي : أتيتهم يا محمد. وقرأ عيسى بن عمر «بذكراهم» وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون والتشديد من التذكير ، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال ، وقيل : الذكر : هو الوعظ والتحذير (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) أي : هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم
__________________
(١). الأنبياء : ٢٢.
(٢). الزخرف : ٤٤.