هذا دليل على أن الأمور الاعتقادية لا يصح أن يكتفي فيها بغلبة الظن بوجه ؛ لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) فالمحصول إنما هو العلم فدل على أن الظن يشاركه فيه الغير ، قال : ويجيب الآخرون بأن السؤال في الآية إنما وقع عن علمها ؛ أعني عما يفيد علمها لا عما يحصل طلبها ، فلذلك أجابوا بإسناد علمها الله تعالى ، قيل له : قد ذكر السهيلي أنها تعلم بأوائل السور فاسقط مدتها منها بعد أن جمع حروف ، وأسقط المكرر منها ، وذكر نحوه ابن إسحاق في السير عن اليهود ، وذكره السكوكي وأسنده حديثا ، فقال ابن عرفة : هذا كله غير صحيح.
قوله تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
الثقل فيها لأحد وجهين : إما لشدة أمرهما بأن النفس تنفر منها ، إذ لا يعلم أنها تخلد في النار أو في الجنة ، وإما لنقل الدلائل والطرق إلى العلم بتوقيتها ، فليس ثم دليل موصل إلى ذلك بوجه بخلاف غيرها.
قوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).
حكم على الغائب بحكم المخاطب مع أن الإتيان إنما هو لذرية المخاطبين النافين لآخر الزمان ؛ فغلب المخاطب الحاضر.
قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها).
قال ابن عرفة : فصلت هذه الجملة عما قبلها لكمال مفارقتها لها في المعنى.
قال الزمخشري : فإن قلت : لم كرر (يَسْئَلُونَكَ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) قلت : للتأكيد لما جاء بزيادة كأنك خفي عنها ، وعلى هذا تقرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلو المكرر من فائدة زيادة ، قال ابن عرفة : وكان يمشي لنا نحن أنها ليست مكررة ، وأن الأول سؤال من العوام ، والثاني سؤال من الخواص على أن فيه تفكيك الضمائر لكنه مغتفر وهو أولى من التكرار ، ومما يؤيد هذا ويستأنس به بعض تأنيس العقيب الأول ، بقوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ، والعقيب الثاني ، بقوله (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) فالعوام بجهلهم قوبلوا بلفظ الرب المستضيء للإحسان والرحمة والحنان ، والعلماء قوبلوا باللفظ المستضيء للحلال والقهر والغلبة.
قوله تعالى : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها).
هل معناه شبيه بالحقير عنها ، أو أنه مشبه بالخفي عنها إيمانهم يعتقدون شبهه بالخفي ، أو أنه في نفس الأمر شبيه بالخفي ، والظاهر الأول.