ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أنه سمع خصومة بباب حجرته فخرج إليهم فقال : إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك. وكلمة «أبلغ» معناها : أفصح ببيان حجته. ويقال : بلغ بلاغة فهو بليغ ـ فعيل بمعنى فاعل ـ وقال الزجاج : أي كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه. وقال غيره : البلاغة : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ. وقال آخر : البليغ : هو أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة. وقال الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده. و «خصمان» في الآية الكريمة المذكورة آنفا هما في الحقيقة ملكان أي المشهور أنهما ملكان وقيل : الأقرب أنهما بشران عاديان.
** (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) : ورد هذا القول الكريم في الآية الكريمة الثانية والعشرين .. المعنى : ولا تجر في الحكم .. من أشط : أي جار .. وشط ـ يشط ـ شطا مثله والمصدر أيضا .. شططا وشطوطا والفعل من بابي «ضرب» و «قتل» وكلاهما مشتق من «الشطط» وهو البعد عن الحقيقة. أما الفعل «هدى» في «اهدنا» فقد تعدى هنا إلى مفعوله بحرف الجر وفي آيات أخرى تعدى بنفسه إلى المفعول وفي بعض منها تعدى باللام. كان الرسول الكريم محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقول عند قيامه من فراشه : رب اغفر لي وارحم واهد للسبيل الأقوم. من هذا يتبين أن حرف الجر «إلى» يسقط في آية ويذكر في أخرى وأن الفعل «هدى» يتعدى إلى مفعولين .. وأنه يتعدى إلى المفعول الثاني منهما : إلى .. واللام. قالت العرب : إنك لا تهدي المتضال ومعناه : من ركب الضلال على عمد لم تقدر على هدايته وصار هذا القول مثلا يضرب لمن أتى أمرا على عمد وهو يعلم أن الرشاد في غيره. قال الشاعر :
وما لي فيه سوى أنني |
|
أراه هدى وافق المقصدا |
وأرجو الثواب يكتب الصلاة |
|
على السيد المصطفى أحمدا |
وكان داود ـ عليهالسلام ـ يسرد الدرع : أي ينسجها .. وقد لين الله له الحديد كالطين. وصادف أن يدخل عليه لقمان الحكيم فأراد أن يسأل داود ـ عليهالسلام ـ عما يصنع فأدركته الحكمة .. فسكت وهو المشهور ـ أي لقمان ـ بعدم التدخل فيما لا يعنيه وهو الذي سأله رجل : ألست الذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال لقمان : بلى. قال : ما بلغ ما أرى؟ قال لقمان : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وهذا الذي حدا به أن يمسك نفسه عن سؤال داود : ما ذا يصنع؟ فلما أتم داود نسج الدرع لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت. فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود : بحق ما سميت حكيما. وعلى ذكر حكمة «لقمان» روي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب .. ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب .. فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا.
** (وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) : ورد هذا القول الكريم في الآية الكريمة الرابعة والعشرين وفيه «ما» زائدة للإبهام أي مبهمة والتعجب من قلتهم أما الفعل «ظن» فمعناه : علم .. أيقن .. وقد استعيرت لفظة «ظن» لمعنى «علم» لأن «الظن» الغالب يداني العلم أو تكون «ما» لتأكيد قلتهم لأن المعنى : وقليل هؤلاء. قال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم. فإن من علم الرجل أن يقول لشيء لا يعلمه : الله أعلم. ويقال في المدح والإعجاب والاستحسان : ما أعلمه وما أصوب رأيه! ويقابله في الدعاء على الشخص بصيغة المدح قولهم : هبلته أمه .. وثكلته أمه ومثله : قاتله الله ما أشجعه!