ثم خوّفهم وأخبر عن عاقبة من كذب قبلهم فقال : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ؛) يعني أمم كافرة ، (وَما بَلَغُوا ؛) يعني أهل مكّة ، (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ ؛) أي ما بلغ هؤلاء الذين أرسلت إليهم عشر ما أوتي الأمم قبلهم من القوّة والعدّة ، (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (٤٥) ؛ فانظر كيف كان إنكاري عليهم وتعذيبي لهم ، أليسوا مهلكين بالعذاب إذ لم يؤمنوا به معشار. والعشر والعشير جزء من عشرة. قال ابن عبّاس : (المعنى : وما بلغ قومك معشار ما آتيناهم من القوّة وكثرة المال وطول العمر فأهلكهم الله) (١).
قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ؛) أي آمركم وأوصيكم بخصلة واحدة وهي : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ؛) أي تقوموا لله اثنين اثنين وواحدا واحدا ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) ، فيناظروا ويذكّروا في أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم (٢) ، هل ترون في فعله وقوله ودعائه إلى توحيد الله ما يكون من كلام المجانين وأفعالهم ، وهو كلام عالم حازم؟ قال مقاتل : (والمعنى : ألا يتفكّر منكم واحد ومع صاحبه ينظروا أنّ خلق السّموات والأرض دليل على أنّ خالقها واحد لا شريك له) (٣).
قوله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ؛ وذلك أنّ المشركين قالوا : إنّ محمّدا صلىاللهعليهوسلم ساحر مجنون! فقال الله تعالى : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) وما صاحبكم بمجنون ، فعلى هذا المعنى يكون قوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ابتداء كلام من الله تعالى ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكّروا فتعلموا بطلان قولكم في نسبته إلى الجنون. وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ؛) أي ما هو إلّا رسول مخوّف ، (بَيْنَ
__________________
(١) أخرجه الطبري في جامع البيان : الأثر (٢٢٠٦٨ و٢٢٠٦٩) مختصرا.
(٢) في الجامع لأحكام القرآن : ج ١٤ ص ٣١١ ؛ قال القرطبي : (لأن الذهن حجة الله على العباد وهو العقل ، فأوفرهم عقلا أوفرهم حظا من الله ، فإذا كانوا فرادى كانت فكرة واحدة ، وإذا كانوا اثنان تقابل الذهنان فترائى من العلم لهما أضعف على الانفراد ، والله أعلم).
(٣) في تفسير مقاتل بن حيان : ج ٣ ص ٦٩ ؛ قال مقاتل : (ألا يتفكر الرجل وحده ، ومع صاحبه فيعلم ويتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما أن عزوجل خلق هذه الأشياء وحده ، وأن محمدا صادق وما به من جنون).