وجاء النّاس يشتدّون وقالوا : الغرق الغرق ، فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) فكشف الله عنهم الشّدّة ، ثمّ عادوا إلى الكفر (١). فذلك قوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ؛) وذلك يوم بدر ، (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (١٦).
وهذا التأويل إنما يستقيم على قول ابن مسعود فإنه كان يقول : (خمس قد مضين : الدّخّان والرّوم والبطشة واللّزام وانشقاق القمر) (٢) وكان يذهب إلى أنّ البطشة الكبرى هي التي أصابتهم يوم بدر ، وذلك أعظم من الجوع الذي أصابهم بمكّة.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المراد بالدّخان في هذه الآيات : الدخّان الذي ينزله الله تعالى عند قيام الساعة ، ثم يغشاهم عذاب أليم بعد ذلك ، كما روي عن مسروق أنه قال : (إذا كان يوم القيامة نزل دخّان من السّماء ، فأخذ بأسماع الكفّار والمنافقين وأبصارهم حتّى تصير رؤوسهم كالرّأس الحنيذ ، ويأخذ المؤمنين بمنزلة الزّكام) (٣).
فعلى هذا القول يكون معنى قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي من أين لهم الذّكرى ، أي من أين ينفعهم إيمانهم (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) في الوقت الذي كانوا مكلّفين فيه ثمّ أعرضوا عن الإيمان به (وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي هو معلّم يعلّمه الجنّ ، ويعترضون له. وقيل : معناه : يعلّمه بشر مجنون بادّعائه النبوّة. ويكون معنى
__________________
(١) الحديث بألفاظ عديدة ، إلى سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن مسروق ، كما في الدار المنثور : ج ٧ ص ٤٠٦. وذكر مجيء أبي سفيان أخرجه مسلم في الصحيح : كتاب صفات المنافقين : باب الدخان : الحديث (٣٩ و٤٠ / ٢٧٩٨).
(٢) في المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج : ج ١٧ ـ ١٨ ص ١٤٨ ـ ١٤٩ ؛ قال الإمام النووي :
(وفسرها كلها في الكتاب إلا اللزام ، والمراد به قوله سبحانه وتعالى : (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي يكون عذابهم لزاما ، قالوا : وهو ما جرى عليهم يوم بدر من الأسر والقتل ، وهي البطشة الكبرى).
(٣) بهذا اللفظ لم أقف عليه ، ولعله أدرج أحاديث ابن عمر والحسن وحذيفة في حديث ابن مسعود.