وقيل : كانت قراهم أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام ، (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) ، أي قدرنا سيرهم بين هذه القرى فكان مسيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم ، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار.
وقال قتادة : كانت امرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، وكان ما بين اليمن والشام كذلك ، (سِيرُوا فِيها) ، أي وقلنا لهم سيروا فيها ، وقيل : هو أمر بمعنى الخبر أي مكناهم من السير فكانوا يسيرون فيها ، (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) ، أي بالليالي والأيام أيّ وقت شئتم ، (آمِنِينَ) ، لا تخافون عدوا ولا جوعا ، ولا عطشا ، فبطروا وطغوا ولم يصبروا (١) على العافية ، وقالوا : لو كانت جناتنا أبعد مما هي كان أجدر أن تشتهيه.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ، فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ونتزوّد الأزواد ، فعجل الله لهم الإجابة. وقال مجاهد : بطروا النعمة وسئموا الراحة ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد التشديد من التبعيد وقرأ الآخرون (باعد) بالألف وكل على وجه الدعاء والسؤال ، وقرأ يعقوب : «ربنا» برفع الباء ، «باعد» بفتح العين والدال على الخبر كأنهم استبعدوا (٢) أسفارهم القريبة وبطروا وأشروا ، (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، بالبطر والطغيان. قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) ، عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم وشأنهم ، (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق. قال الشعبي : لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد ، أما غسان فلحقوا بالشام ومرّ الأزد إلى عمان ، وخزاعة إلى تهامة ، ومرّ آل خزيمة إلى العراق ، والأوس والخزرج إلى يثرب ، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جدّ الأوس والخزرج. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ، لعبرا ودلالات ، (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن معاصي الله ، (شَكُورٍ) ، لأنعمه ، قال مقاتل : يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء شاكر للنعماء. قال مطرف : هو المؤمن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) ، قرأ أهل الكوفة : «صدق» بالتشديد أي ظن فيهم ظنا حيث قال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢] (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] فصدق ظنه وحققه (٣) بفعله ذلك بهم واتباعهم إياه.
وقرأ الآخرون بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم أي على أهل سبأ. وقال مجاهد : على الناس كلهم إلا من أطاع الله ، (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال السدي عن ابن عباس : يعني المؤمنين كلهم لأن المؤمنين لم يتبعوه في أصل الدين ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] ، يعني المؤمنين. وقيل : هو خاص بالمؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه.
قال ابن قتيبة : إن إبليس لما سأل النظرة فأنظره الله ، قال لأغوينّهم أجمعين ولأضلنّهم ، لم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا فيهم ، فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه [فيهم](٤). قال الحسن : إنه لم يسلّ عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط وإنما وعدهم ومناهم فاغتروا.
__________________
(١) في المطبوع «يصيروا».
(٢) في المخطوط ـ ب ـ «استغربوا».
(٣) في المطبوع «حقه».
(٤) زيادة عن المخطوط.