ودقائق علمه ، وغرائب تأويله ، وناسخه ومنسوخه. قلت : وما الحجة ـ بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال : قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة ـ وجعلهم أهلها : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ـ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ » فهذه الأئمة دون الأنبياء ـ الذين يربون الناس بعلمهم ، وأما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين ، ثم أخبر ـ فقال : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ » ولم يقل بما حملوا منه.
أقول : وهذا استدلال لطيف منه عليهالسلام يظهر به عجيب معنى الآية وهو معنى أدق مما تقدم بيانه ومحصله : أن الترتيب الذي اتخذته الآية في العد فذكرت الأنبياء ثم الربانيين ثم الأحبار يدل على ترتبهم بحسب الفضل والكمال : فالربانيون دون الأنبياء وفوق الأحبار ، والأحبار هم علماء الدين الذين حملوا علمه بالتعليم والتعلم.
وقد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربانيين بقوله : « بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ » ولو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل : بما حملوا كما قال : « مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها » : الآية ( الجمعة : ٥ ) فإن الاستحفاظ هو سؤال الحفظ ، ومعناه التكليف بالحفظ نظير قوله : « لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ » : ( الأحزاب ٨ ) أي ليكلفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق ، وهذا الحفظ ثم الشهادة على الكتاب لا يتمان إلا مع عصمة ليست من شأن غير الإمام المعصوم من قبل الله سبحانه فإن الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب ، واعتبر شهادتهم بانيا ذلك عليه ، ومن المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب ، وهي التي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطإ والغلط عليهم.
فهذا الحفظ والشهادة غير الحفظ والشهادة اللذين بيننا معاشر الناس ، بل من قبيل حفظ الأعمال والشهادة التي تقدم في قوله تعالى : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » : ( البقرة : ١٤٣ ) وقد مر في الجزء الأول من الكتاب.
ونسبة هذا الحفظ والشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الأعمال إلى جميع الأمة مع كون القائم بها بعضهم ، وهو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى : « وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ » : ( الجاثية : ١٦ ).
وهذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ والشهادة وأخذ الميثاق منهم بذلك لأنه ثبوت شرعي اعتباري غير الثبوت الحقيقي الذي يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط