يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ـ ٥٤. )
( بيان )
السير الإجمالي في هذه الآيات يوجب التوقف في اتصال هذه الآيات بما قبلها ، وكذا في اتصال ما بعدها كقوله تعالى : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ » ( إلى آخر الآيتين ) ثم اتصال قوله بعدهما : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً » إلى تمام عدة آيات ثم في اتصال قوله : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ » (الآية).
أما هذه الآيات الأربع فإنها تذكر اليهود والنصارى ، والقرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكية لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنما يتعرض لحالهم في المدينة من الآيات ، ولا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإن المسلمين إنما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود ومعاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم ومكرهم خاصة دون النصارى إلا في النصف الأخير من زمن إقامة النبي صلىاللهعليهوآله بالمدينة فلعل الآيات الأربع نزلت فيه ، ولعل المراد بالفتح فيها فتح مكة.
لكن تقدم أن الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجة الوداع وقد فتحت مكة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكة؟ أو أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة وقبل نزول السورة جميعا؟
ثم إن الآية الأخيرة أعني قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ » (الآية) هل هي متصلة بالآيات الثلاث المتقدمة عليها؟ ومن المراد بهؤلاء القوم الذين تتوقع ردتهم؟
ومن هؤلاء الآخرون الذين وعد الله أنه سيأتي بهم؟ كل واحد منها أمر يزيد إبهاما على إبهام ، وقد تشتت ما ورد من أسباب النزول وليست إلا أنظار المفسرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات ، وهذا الاختلاف الفاحش أيضا مما يشوش الذهن في تفهم المعنى ، أضف إلى ذلك كله مخالطة التعصبات المذهبية الأنظار القاضية فيها كما سيمر بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات وأقوال المفسرين من السلف والخلف.