والذي يعطيه التدبر في الآيات أن هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متصلة الأجزاء منقطعة عما قبلها وما بعدها ، وأن الآية الرابعة من متممات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنه يجب التحرز في فهم معناها عن المساهلات والمسامحات التي جوزتها أنظار الباحثين من المفسرين في الآيات وخاصة فيما ذكر فيها من الأوصاف والنعوت على ما سيجيء.
وإجمال ما يتحصل من الآيات أن الله سبحانه يحذر المؤمنين فيها اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ويهددهم في ذلك أشد التهديد ، ويشير في ملحمة قرآنية إلى ما يئول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينية ، وأن الله سيبعث قوما يقومون بالأمر ، ويعيدون بنية الدين إلى عمارتها الأصلية.
قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » قال في المجمع : الاتخاذ هو الاعتماد على الشيء لإعداده لأمر ، وهو افتعال من الأخذ ، وأصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاء ، وأدغمتها في التاء التي بعدها ومثله الاتعاد من الوعد ، والأخذ يكون على وجوه تقول : أخذ الكتاب إذا تناوله ، وأخذ القربان إذا تقبله ، وأخذه الله من مأمنه إذا أهلكه ، وأصله جواز الشيء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.
وقال الراغب في المفردات : الولاء والتوالي أن يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد ( انتهى موضع الحاجة ) وسيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.
وبالجملة الولاية نوع اقتراب من الشيء يوجب ارتفاع الموانع والحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوى والانتصار فالولي هو الناصر الذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شيء ، وإن كان من جهة الالتيام في المعاشرة والمحبة التي هي الانجذاب الروحي فالولي هو المحبوب الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته ، ويعطيه فيما يهواه وإن كان من جهة النسب فالولي هو الذي يرثه مثلا من غير مانع يمنعه ، وإن كان من جهة الطاعة فالولي هو الذي يحكم في أمره بما يشاء.
ولم يقيد الله سبحانه في قوله : « لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ » الولاية بشيء من الخصوصيات والقيود فهي مطلقة غير أن قوله تعالى في الآية التالية : « فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ » ، يدل على أن المراد بالولاية نوع من القرب والاتصال يناسب هذا الذي اعتذروا به بقولهم : « نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ »