ويكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أي واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.
وما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنها تتضمن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده ، والفتح فتح مكة أو فتح قلاع اليهود وبلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا ولا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين ، ولا ندامة في الاحتياط ، وإنما كان يصح الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرة واتصلوا باليهود والنصارى ثم دارت الدائرة عليهم ، وكذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم وصيرورتهم خاسرين بقوله : « حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ » لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم ومطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتقاء من مكروه يخافه على نفسه ثم صادف إن لم يقع ما كان يخاف وقوعه ، والاحتياط في العمل من الطرق العقلائية التي لا تستتبع لوما ولا ذما.
إلا أن يقال : إن الذم إنما لحقهم لأنهم عصوا النهي الإلهي ولم تطمئن قلوبهم بما وعده الله من الفتح ، وهذا وإن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.
قوله تعالى : « فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ » لفظة « عسى » وإن كان في كلامه تعالى للترجي كسائر الكلام ـ على ما قدمنا أنه للترجي العائد إلى السامع أو إلى المقام ـ لكن القرينة قائمة على أنه مما سيقع قطعا فإن الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله : « إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » وتثبيت صدقه ، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.
والذي ذكره الله تعالى من الفتح ـ وقد ردد بينه وبين أمر من عنده غير بين المصداق بل الترديد بينه وبين أمر مجهول لنا ـ لعله يؤيد كون اللام في « بِالْفَتْحِ » للجنس لا للعهد حتى يكون المراد به فتح مكة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ » : ( القصص : ٨٥ ) وقوله : « لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ » ( الفتح : ٢٧ ) وغير ذلك.
والفتح الواقع في القرآن وإن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى : « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ » ( السجدة : ٣٠ ) فإنه تعالى وصف هذا الفتح بأنه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافرا قبله ، وأن الكفار ينتظرونه ، وأنت تعلم أنه لا ينطبق على فتح مكة ولا على سائر الفتوحات التي