فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التي تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدي إليه الفطرة التي فطر الناس عليها ، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليهالسلام بالنسبة إلى الآيات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام.
وفي سياق الآيات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الإلهية من أن تضيع بالأهواء الشيطانية ، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله : « وَوَهَبْنا لَهُ » إلخ ، وقوله :
« وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ » إلخ ، وقوله : « وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ » وقوله : « فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ » إلخ.
وفي طي الآيات بيان ما تمتاز به الهداية الإلهية من غيرها من الخصائص وهي الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجيء من البيان إن شاء الله.
قوله تعالى : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا » إسحاق هو ابن إبراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق عليهالسلام ، وقوله : « كُلًّا هَدَيْنا » قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الإلهية تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا أنها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه ، فهو بمنزلة أن يقال : هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب. كما قيل.
قوله تعالى : « وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ » فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم عليهالسلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليهالسلام.
قوله تعالى : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ ـ إلى قوله ـ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ » الضمير في « ذُرِّيَّتِهِ » راجع إلى نوح ظاهرا لأنه المرجع القريب لفظا ، ولأن في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس على ما قيل.
وربما قيل : إن الضمير يعود إلى إبراهيم عليهالسلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهالسلام من الذرية تغليبا قال : « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ » : ( العنكبوت : ٢٧ ) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الآية