والثاني من القولين احتجاج بوجود معارف وأحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعة بما له من العواطف والأفكار التي تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء والمسكن واللباس والنكاح وجلب المنافع ودفع المضار والمكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني ، وأما المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة الطيبة والشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان الاجتماعي بشعوره الاجتماعي وأنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ وهو إنما يبعث الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة الأرضية ، ومقاصده في المأكل والمشرب والمنكح والملبس والمسكن وما يتعلق بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو يصطلحه على التعاضد والاشتراك في المنافع ورعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر عليه ، وهو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث عن قوله تعالى : « كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ » الآية : ( البقرة : ٢١٣ ) في الجزء الثاني من الكتاب ، وسنزيده وضوحا إن شاء الله.
وبالجملة فالآية أعني قوله تعالى : « وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ » تدل بما لها من الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط ومنزل السعادة بإنزال الكتاب والوحي على بعض أفراده ، وتستدل على ذلك بوجود بعض الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا ، وبوجود ما يدل على تعاليم إلهية بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.
قوله تعالى : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً » القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب والمخاطبون به اليهود لا محالة ، وقرئ « يجعلونه » بصيغة الغيبة ، والمخاطب المسئول عنه بقوله : « مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ إلخ » ، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما قيل ، والمراد يجعل الكتاب قراطيس وهي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة فيها ، وإما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف والقراطيس تسمى كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.