وقوله : « قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى » إلخ. جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى : « إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » والآية وإن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون : « ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ » هم اليهود أيضا ، وذلك أن الآية تحتج على هؤلاء القائلين بكتاب موسى عليهالسلام والمشركون لا يعترفون به ولا يقولون بنزوله من عند الله ، وإنما القائلون به أهل الكتاب ، وأيضا الآية تذمهم بأنهم يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ، وهذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ » على ظاهر معناه الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم وسيجيء إن شاء الله تعالى.
وأما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى ومن قبله عليهالسلام وبنزول كتب سماوية كالتوراة وغيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا : ما أنزل الله على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه : أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي صلىاللهعليهوآله يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه ، وقد قالوا في تأييد وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين : ( هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) ، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد وأساس دينهم التوحيد حتى أنزل الله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » : ( النساء : ٥١ ).
وقولهم ـ وهو أبين سفها من سابقه ـ اغتياظا على النصارى : إن إبراهيم عليهالسلام كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ـ إلى أن قال ـ ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » : ( آل عمران : ٦٧ ) إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة المحكية في القرآن الكريم.