وثانيا : أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله : ( مُبارَكٌ مُصَدِّقُ ) إلخ ، بمنزلة الأدلة على كونه نازلا من الله وليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله أنه مبارك أودع الله فيه البركة والخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم ، وقوة جمعهم ، ووحدة كلمتهم ، وزوال الشح من نفوسهم ، والضغائن من قلوبهم ، وفشوا الأمن والسلام ، ورغد عيشهم ، وطيب حياتهم وانجلاء الجهل وكل رذيلة عن ساحتهم ، واستظلالهم بمظلة سعادتهم ، وينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم والنعيم المقيم.
ولو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي سماوي من عند الله وليس من عنده لم تستقر فيه ولا ترتب عليه هذه البركات الإلهية والخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر ولن ينتج فساد صلاحا ، وقد قال تعالى : « فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ » : ( النحل : ٣٧ ) وقال : « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » : ( الصف : ٥ ) وقال : « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً » : ( الأعراف : ٥٨ ).
ومن أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من عند الله.
ومن أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه وهو أن يهديهم إلى سعادة حياتهم في الدنيا والآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » فأم القرى هي مكة المشرفة ، والمراد أهلها بدليل قوله : « وَمَنْ حَوْلَها » والمراد بما حولها سائر بلاد الأرض التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل ، والكلام يدل على عناية إلهية بأم القرى وهي الحرم الإلهي منه بدئ بالدعوة وانتشرت الكلمة.
ومن هذا البيان يظهر : أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله : « وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى » وخاصة على قراءة « لينذر » بصيغة الغيبة معطوفا على قوله : « مُصَدِّقُ » بما يشتمل عليه من معنى الغاية ، والتقدير : ليصدق ما بين يديه ولتنذر أم القرى على ما ذكره