وقد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » مطلق ما ينتهي من المعارف والشرائع إلى الوحي والكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى عليهالسلام وإن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة وشرائعه خلافا لبعض المفسرين. وذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا » إلخ ، ولم يقل وعلمتم به أو وعلمكم الله به.
وقد قيل : « وَعُلِّمْتُمْ » إلخ ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل : إن فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟ ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله : الله عز اسمه.
قوله تعالى : « قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ » لما كان الجواب واضحا بينا لا يداخله ريب ، والجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه ولا ينتظر المسئول المحتج عليه ، أمر تعالى نبيه صلىاللهعليهوآله أن يتصدى هو للجواب فقال : « قُلِ اللهُ » أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى والذي علمكم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم هو الله.
ولما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول وهزله الذي لا يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق وخاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين بتوراة موسى والمباهين بالعلم والكتاب أمره بأن يدعهم وشأنهم فقال : « ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ».
قوله تعالى : « وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها » لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهمالسلام ، وأن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى ، وأمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي وتعليم غيبي ، ذكر أن هذا القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية ، ومن الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.
ومن هنا يظهر أولا : أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى دون من نزل عليه ، ولذا قال : كتاب أنزلناه ولم يقل أنزلناه إليك على خلاف موارد أخر كقوله تعالى : « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ » : ( ـ ص : ٢٩ ) وغيره