ويتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان والنبات ، والنبات مثلا بالنظام الجاري في الأرض والجو المحيط بها ، وتستمد الأرضيات بالسماويات والسماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع إلى ما يسعد به في كونه ويفوز به في وجوده وتأبى الفطرة السليمة والشعور الحي إلا أن يقضي أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم وتدبير حكيم خبير.
وليس هذا التقدير والتدبير إلا عن فطر ذواتها وإيجاد هوياتها وصوغ أعيانها بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله ويحصره في ما أريد منه في موطنه وما يئول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره ، والذي يقف عليه آخر ما يقف ، وهي في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر وقائد القضاء.
قال تعالى : « لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » : ( الأعراف : ٥٤ ) وقال : « أَلا لَهُ الْحُكْمُ » : ( الأنعام : ٦٢ ) وقال : « وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها » : ( البقرة : ١٤٨ ) وقال : « وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ » : ( الرعد : ٤١ ) وقال : « هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » : ( الرعد : ٣٣ ).
وكيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها وصريح مضامينها إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات والشخصيات ثم اعتزلها وما كان يسعه إلا أن يعتزل ويرصد فشرع الأشياء في التفاعل والتناظم بما فيها من روح العلية والمعلولية واستقلت في الفعل والانفعال وخالقها يتأملها في معزله وينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه من استمع لدعوته في حياته الأولى ويعاقب المستكبر المستنكف ، وقد صبر على خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في مشيتهم ، ويمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة والممانعة.
أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب والعلل الكونية المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه ، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل الأسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث ، وليس يداخل شيئا إلا بإبطال قانون العلية الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب والعلل كان التأثير على مزعمتهم