ويؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية : « لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ».
قوله تعالى : « وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ » التدبر البالغ في أطراف القصة وإمعان النظر فيما محتف به الجهات والأسباب والشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة وواقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.
فقد كان يوسف عليهالسلام رجلا ومن غريزة الرجال الميل إلى النساء ، وكان شابا بالغا أشده وذلك أوان غليان الشهوة وثوران الشبق ، وكان ذا جمال بديع يدهش العقول ويسلب الألباب والجمال والملاحة يدعو إلى الهوى والترح ، وكان مستغرقا في النعمة وهنيء العيش محبورا بمثوى كريم وذلك من أقوى أسباب التهوس والإتراف ، وكانت الملكة فتاة فائقة الجمال وكذلك تكون حرم الملوك والعظماء.
وكانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب ، وهي عزيزة مصر وهي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس وتتوق نفسها إليه ، وكانت لها سوابق الإكرام والإحسان والإنعام ليوسف وذلك كله مما يقطع اللسان ويصمت الإنسان ، وقد تعرضت له ودعته إلى نفسها والصبر مع التعرض أصعب ، وقد راودته هذه الفتانة وأتت فيها بما في مقدرتها من الغنج والدلال ، وقد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه والصبر معها أصعب وأشق ، وكانت عزيزة لا يرد أمرها ولا يثنى رأيها ، وهي ربته خصه بها العزيز ، وكانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون وتدعو إلى كل عيش هنيء.
وكانا في خلوة وقد غلقت الأبواب وأرخت الستور ، وكان لا يأمن الشر مع الامتناع ، وكان في أمن من ظهور الأمر وانهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر والتعمية ، ولم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل ، وكان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة والمعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة وأمانيها كالملك والعزة والمال.
فهذه أسباب وأمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها ولم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز.