أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه. ولو كان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء وقلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.
وأما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا وأشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم. شرافة النسب من أن يهموا بقتله ويلقوه في غيابت الجب ويبيعوه من السيارة بيع العبيد ويثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي عليهالسلام فبكى حتى ابيضت عيناه.
وأما قبح الخيانة وحرمتها فهو من القوانين الاجتماعية والقوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة ، وذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية والحكومة العادلة ، وأما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.
فلم يكن عند يوسف عليهالسلام ما يدفع به عن نفسه ويظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد وهو الإيمان بالله. وإن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا ولا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة. ولنرجع إلى متن الآية.
فقوله تعالى : « وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ » لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة ، والسياق يعطي أن المراد بصرف السوء والفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه وسئل بالمراودة والخلوة ، وأن المشار إليه بقوله : « كَذلِكَ » هو ما يشتمل عليه قوله : « أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ».
فيئول معنى قوله : « كَذلِكَ لِنَصْرِفَ » إلى آخر الآية إلى أنه عليهالسلام لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء والفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء والفحشاء عن يوسف عليهالسلام.