وعلى تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله : ( رَبِّ اجْعَلْ ) إلخ تقديره : رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا وقد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه وفي الأخرى الموصوف اختصارا.
والمراد بالأمن الذي سأله عليهالسلام الأمن التشريعي دون التكويني ـ كما تقدم في تفسير آية البقرة ـ فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة والأمن ، وهو ـ على خلاف ما ربما يتوهم ـ من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم عليهالسلام بإذن ربه أعني حكم الحرمة والأمن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم الله الآمن وقد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إلى أهلها وإلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم ويتعلق قلبه بهم ، وقد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا وما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ـ إلى قوله ـ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقال : جنبه وأجنبه أي أبعده ، وسؤاله عليهالسلام أن يجنبه الله ويبعده وبنيه من عبادة الأصنام لواذ والتجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله : ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ) إلخ.
ومن المعلوم أن هذا الإبعاد والإجناب منه تعالى كيفما كان وأيا ما كان تصرف ما وتأثير منه تعالى في عبده بنحو ، غير أنه ليس بنحو يؤدي إلى الإلجاء والاضطرار ولا ينجر إلى القهر والإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى : ( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية ، أن كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى أولا ، ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء ولو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة ، وقد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده وعناية ، وليس في الحقيقة إلا أمرا تلبس واتصف به العبد غير أنه إنما يملكه بتمليك