قوله تعالى : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا » قد تقدم في القصة من سورة آل عمران أن إلقاء البشرى إلى زكريا كان بتوسط الملائكة « فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى » ، وهو عليهالسلام إنما سأل الآية ليتميز به الحق من الباطل فتدله على أن ما سمعه من النداء وحي ملكي لا إلقاء شيطاني ولذلك أجيب بآية إلهية لا سبيل للشيطان إليها وهو أن لا ينطلق لسانه ثلاثة أيام إلا بذكر الله سبحانه فإن الأنبياء معصومون بعصمة إلهية ليس للشيطان أن يتصرف في نفوسهم.
فقوله : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً » سؤال لآية مميزة ، وقوله : « قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا » إجابة ما سأل ، وهو أن يعتقل لسانه ثلاثة أيام من غير ذكر الله وهو سوي أي صحيح سليم من غير مرض وآفة.
فالمراد بعدم تكليم الناس عدم القدرة على تكليمهم ، من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم كناية ، والمراد بثلاث ليال ثلاث ليال بأيامها وهو شائع في الاستعمال فكان عليهالسلام يذكر الله بفنون الذكر ولا يقدر على تكليم الناس إلا رمزا وإشارة ، والدليل على ذلك كله قوله تعالى في القصة من سورة آل عمران : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ » آل عمران : ٤١.
قوله تعالى : « فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا » قال في المجمع ، : وسمي المحراب محرابا لأن المتوجه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته ، والأصل فيه مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله. وقال : الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفية بسرعة ، وأصله من قولهم : الوحي الوحي أي الإسراع الإسراع. انتهى ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى : « يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ » قد تكرر في كلامه تعالى ذكر أخذ الكتاب بقوة والأمر به كقوله : « فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها » الأعراف : ١٤٥ ، وقوله : « خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ » البقرة ـ ٦٣ ، وقوله : « خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا » البقرة : ٩٣ إلى غير ذلك من الآيات ،