وقد جعله الله خليفة في الأرض كما قال : « يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ » ـ ص : ٢٦ فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة ما ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.
ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحدة شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه ، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله : « إِذْ يَحْكُمانِ » إذ يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ ، ويؤيده كمال التأييد التعبير بقوله : « إِذْ يَحْكُمانِ » على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا تدريجيا لم يتم بعد ولن يتم إلا حكما واحدا نافذا وكان الظاهر أن يقال : إذ حكما.
ويؤيده أيضا قوله : « وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ » فإن الظاهر أن ضمير « لِحُكْمِهِمْ » للأنبياء وقد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل : إن الضمير لداود وسليمان والمحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه.
فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما ـ وهو حكم سليمان ـ الآخر وهو حكم داود لقوله تعالى : « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » وإما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.
أما الأول وهو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ متباينان ولو كان حكماهما من قبيل النسخ ومتباينين لقيل : وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين ولم يقل : « وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ » المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطإ ، ولو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطإ ، ولا يناسبه أيضا قوله : « وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً » وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.
وأما الثاني وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول : « فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ » وهو العلم بحكم الله الواقعي